بوحجلة :استفادة 700 مواطن من القافلة الصحيّة بمدرسة 24 جانفي 1952    عاجل : أحمد الجوادى يتألّق في سنغافورة: ذهبية ثانية في بطولة العالم للسباحة!    عاجل/ القبض على صانعة محتوى بتهمة نشر مقاطع فيديو خادشة للحياء..وهذه التفاصيل..    سيدي بوزيد: تضرر المحاصيل الزراعية بسبب تساقط البرد    عارف بلخيرية مجددا على رأس الجامعة التونسية للرقبي    لا تفوتوا اليوم لقاء الترجي والملعب التونسي..البث التلفزي..    عاجل/ غرق طفلين بهذا الشاطئ..    نبض متواصل.... الرباعي يجدد العهد مع جمهور الحمامات    الأغاني الشعبية في تونس: تراث لامادي يحفظ الذاكرة، ويعيد سرد التاريخ المنسي    بلاغ هام لوزارة التشغيل..#خبر_عاجل    منوبة: رفع 16 مخالفة اقتصادية و13 مخالفة صحية    بطولة العالم للسباحة: الأمريكية ليديكي تفوز بذهبية 800 م حرة    عاجل : نادي الوحدات الاردني يُنهي تعاقده مع المدرب قيس اليعقوبي    الالعاب الافريقية المدرسية: تونس ترفع حصيلتها الى 121 ميدالية من بينها 23 ذهبية    إيران: لم نطرد مفتشي الوكالة الدولية بل غادروا طوعاً    تحذيرات من تسونامي في ثلاث مناطق روسية    منزل بوزلفة:عمال مصب النفايات بالرحمة يواصلون اعتصامهم لليوم الثالث    عودة فنية مُفعمة بالحبّ والتصفيق: وليد التونسي يُلهب مسرح أوذنة الأثري بصوته وحنينه إلى جمهوره    فضيحة تعاطي كوكايين تهز ال BBC والهيئة تستعين بمكتب محاماة للتحقيق نيابة عنها    برنامج متنوع للدورة ال32 للمهرجان الوطني لمصيف الكتاب بولاية سيدي بوزيد    وزارة السياحة تحدث لجنة لتشخيص واقع القطاع السياحي بجرجيس    تقية: صادرات قطاع الصناعات التقليدية خلال سنة 2024 تجاوزت 160 مليون دينار    إيمانويل كاراليس يسجّل رابع أفضل قفزة بالزانة في التاريخ ب6.08 أمتار    الجيش الإسرائيلي: انتحار 16 جندياً منذ بداية 2025    طقس اليوم الاحد: هكذا ستكون الأجواء    رفع الاعتصام الداعم لغزة أمام السفارة الأمريكية وتجديد الدعوة لسن قانون تجريم التطبيع    الإمضاء على اتفاقية تعاون بين وزارة الشؤون الدينية والجمعية التونسية للصحة الإنجابية    بلدية مدينة تونس تواصل حملات التصدي لظاهرة الانتصاب الفوضوي    دورة تورونتو لكرة المضرب: الروسي خاتشانوف يقصي النرويجي رود ويتأهل لربع النهائي    نانسي عجرم تُشعل ركح قرطاج في سهرة أمام شبابيك مغلقة    ما ثماش كسوف اليوم : تفاصيل تكشفها الناسا متفوتهاش !    عاجل/ تحول أميركي في مفاوضات غزة..وهذه التفاصيل..    829 كم في 7 ثوان!.. صاعقة برق خارقة تحطم الأرقام القياسية    كلمة ورواية: كلمة «مرتي» ما معناها ؟ وماذا يُقصد بها ؟    اليوم الدخول مجاني الى المتاحف    درجات حرارة تفوق المعدلات    في نابل والحمامات... مؤشرات إيجابية والسياحة تنتعش    الكاف: شبهات اختراق بطاقات التوجيه الجامعي ل 12 طالبا بالجهة ووزارة التعليم العالي تتعهد بفتح تحقيق في الغرض (نائب بالبرلمان)    لجنة متابعة وضعية هضبة سيدي بوسعيد تؤكد دقة الوضع وتوصي بمعاينات فنية عاجلة    لرصد الجوي يُصدر تحييناً لخريطة اليقظة: 12 ولاية في الخانة الصفراء بسبب تقلبات الطقس    شائعات ''الكسوف الكلي'' اليوم.. الحقيقة اللي لازم تعرفها    قبلي: يوم تكويني بعنوان "أمراض الكبد والجهاز الهضمي ...الوقاية والعلاج"    قرطاج يشتعل الليلة بصوت نانسي: 7 سنوات من الغياب تنتهي    تنبيه هام: تحويل جزئي لحركة المرور بهذه الطريق..#خبر_عاجل    جامع الزيتونة ضمن السجل المعماري والعمراني للتراث العربي    شراو تذاكر ومالقاوش بلايصهم! شنوّة صار في باب عليوة؟    كيف حال الشواطئ التونسية..وهل السباحة ممكنة اليوم..؟!    عاجل/ شبهات اختراق وتلاعب بمعطيات شخصية لناجحين في البكالوريا..نقابة المستشارين في الإعلام والتوجيه الجامعي تتدخل..    الإدارة العامة للأداءات تنشر الأجندة الجبائية لشهر أوت 2025..    تحذير: استعمال ماء الجافيل على الأبيض يدمّرو... والحل؟ بسيط وموجود في دارك    "تاف تونس " تعلن عن تركيب عدة اجهزة كومولوس لانتاج المياه الصالحة للشرب داخل مطار النفيضة- الحمامات الدولي    كيفاش أظافرك تنبهك لمشاكل في القلب والدورة الدموية؟    الحماية المدنية تحذر من السباحة في البحر عند اضطرابه رغم صفاء الطقس    الرضاعة الطبيعية: 82% من الرضّع في تونس محرومون منها، يحذّر وزارة الصحة    بطاطا ولا طماطم؟ الحقيقة إلّي حيّرت العلماء    القصرين: منع مؤقت لاستعمال مياه عين أحمد وأم الثعالب بسبب تغيّر في الجودة    تاريخ الخيانات السياسية (33) هدم قبر الحسين وحرثه    شنوّة جايك اليوم؟ أبراجك تكشف أسرار 1 أوت!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ميلاد شعب
قراءة في شريط الفاضل الجزيري»ثلاثون»: بقلم رضا البركاتي
نشر في الشعب يوم 10 - 01 - 2009

لا يزال «ثلاثون» محور الاهتمام ويشدّ الأنظار إليه ويثير النقاشات والتعليقات في دوائر تتسع وتزداد كلّ يوم أكثر في صفوف الشباب خاصة وذلك منذ أن خرج من المخابر ونزل إلى الساحة الثقافية في اختتام الدورة الأخيرة لأيّام قرطاج السينمائية، لمّا رنّت «ثلاثون» على المسامع والكلّ يتساءلون عن الفعل العظيم الذي هم فيه مختلفون... هل هو فعل مسرحي؟ أهو عمل سينمائي؟ وثائقي أم روائي؟ هل هو فلم تاريخي؟ يعرض الليلة؟ في هذه القاعة أم تلك؟ أسئلة تردّدت في شارع الثقافة.
والآن تأكّد أنّ «ثلاثون» هو الحدث الثقافي لهذا الموسم بلا منازع. وحتّى مهرجان أيّام قرطاج السينمائية العريق في حمّى اختتامه لم يستطع أن يحجب عنه الأضواء أو أن يستقطب دونه اهتمام محبّي السينما والمثقفين عموما، رغم أنّ ذلك قد يعود في نسبة هامة إلى الهنات التي شهدها المهرجان و... ولكن لتقييم المهرجان مجال خاص ومناسبات أخرى، علما وأن كل نقد واع ومسؤول لا يمكن إلاّ أن يرمي إلى الدفاع عن أيام قرطاج السينمائية كمكسب هام وإلى رفض الرأي القائل بالتخلي عنها بل ندعو إلى تدعيمها وتطويرها خدمة للسينما التونسية وللحركة الثقافية عموما.
«ثلاثون» هو شريط الفاضل الجزيري عن الثلاثينات من القرن الماضي تلك الفترة الخصبة التي يعلم الجميع(1) أنّها شهدت نهضة لا مثيل لها في كلّ المجلات وأنّ تونس اليوم بكلّ ما يحلو فيها، بكلّ إيجابياتها، بأركانها ودعائمها هي نتاج تلك النهضة المبكّرة وثمرة نضالات الرواد الأوّل. أمّا ما قد يتبادر لك في الذهن من نقائص وسلبيات وتراجعات ومراجعات وارتداد فإنّما مرجع كلّ ذلك لنا نحن بالأساس وليس لأجيال الثلاثينات بذلك مساس.
في الثلاثينات كانت التعبيرات الأولى لأوّل تحوّل مجتمعي رهيب في تاريخ الشعب التونسي، بل هي شهادة ميلاد هذا الشعب.

والبداية كانت مع بوادر تبلور الوعي الطبقي للطبقة العاملة التي ظهرت حديثا- مع التدخل الرأسمالي في اقتصاد البلاد- ودخول هذه القوّة الاجتماعية الجديدة طور التنظم النقابي المستقل ببعث جامعة عموم العملة التونسيين (1924 1925) .
وكذلك الحراك السياسي في صفوف النخب وتجسد ذلك خاصة في بعث الأحزاب: الحزب الاشتراكي ثمّ تأسيس الحزب الشيوعي التونسي (1924) على إثر تجربة الحلقات الشيوعية وتحوّل الحزب الحر الدستوري من حزب إصلاحي إلى حزب يسعى للاعتماد على الفئات الشعبية...
ولم يكن ذلك إلاّ نتاجا لحركية فكرية وثقافية ثرية وخصبة تبلورت حول حركة نشر نشيطة وعلى أعمدة عدد هام من الصحف التي ظهرت على الساحة.
حكاية الشريط معروفة والأبطال أعلام في رؤوسهم نار والأحداث التي جدّت لا تخفى على أحد:
كانت البلاد - بل الإيّالة- أيّامها، تحت سلطة تحالف ثلاثي مقدّس: المقيم العام والباي والمفتي.

وجدّت أحداث لعلّ أهمّها: تأسيس جامعة عموم العملة التونسية ومحاكمة محمد علي ورفاقه. الشابي وحلمه بتفجير اللغة وتحرير الخيال. والحداد ، يساهم في انبعاث الجامعة، يضع كتاب «العمال التونسيون»، يواكب الحراك الإعلامي والثقافي والاجتماعي والسياسي، ومعركة «الجلاز»... ويضع كتابه الثاني: امرأتنا في الشريعة والمجتمع.
ولكنّ المهمّ كيف قدّم الفاضل ذلك؟
عندما تشاهد فلما فنّيا.. ترفع رأسك
وعندما تتفرّج على التلفزة تطأطئ رأسك. !
أهو فلم تاريخي بالمنحى التعليمي؟ أي هل المقصد تعليم المتفرجين تاريخهم بوسيلة السينما؟ لا نظنّ أنّ الفاضل سينزع هذا المنزع، لأنّه بكلّ بساطة فنّان ذو رأي وموقف وليس لمن كان في مثل طينته أن يفكّر في تقديم «درس» للجمهور.
«ثلاثون» فلم عن مرحلة تاريخية. وليس فلما تاريخيا كما تصوّره البعض(2). إذا كيف رأى المخرج الثلاثينات؟ وبأيّ فنيات وأساليب قدّمها؟
ها هو «ثلاثون»، الرقم السحري، عنوان القضية، القضية التونسية، يتجلّى على الشاشة العذراء ببيانه، بنوره وألوانه فيرسم فجر اليقظة، نداء النهضة، ويحيي ميلاد شعب.
لذلك لا يمكن أن يمرّ دون أن يثير جدلا حول القضايا التي يطرحها وحول كيفية صوغها.
لعلّ إحدى أهمّ مزايا «ثلاثون» أنّه مثير للنقاش، للجدل، للبحث، للتفكير في قضايا الإنسان والمجتمع والهوية والتاريخ والسياسة والفكر واللغة والفنّ والأدب والصحافة... وبالتأكيد أيضا في أدوات التعبير السينمائي، في الصورة ومكوناتها، والإنارة وأضوائها، واللوحات وحكاياتها، والمشاهد وتركيباتها والسيناريو وحبكته والراوي ووظائفه... عن كل هذا وما زاد عنه وتفرع منه، يثير «ثلاثون» النقاش والجدل والبحث والتدبّر والتفكير.
واكبت الصحافة(3) شريط ثلاثون بنشر مقالات هنا وهناك... ولكن هل كان ذلك بمستوى الحدث؟
أمام شريط شدّ الانتباه ولقي رواجا يسارع عشّاق الفنّ السّابع عادة إلى تصنيفه وإدراجه في خانة الأفلام التجارية أو الثقافية أو أفلام تجربة وفنّ أو.. صنف الفلم الحدث. وذلك كردّة فعل أولى أي قبل الشروع في قراءته وتحليله وتفكيكه أو، بأقلّ جهد، الاكتفاء ب»التقطيع والترييش» أو ربّما تجاوزه فحسب...
وضمن هذه الشريحة من المثقفين، شريحة عشّاق السينما، ثمّة مجموعة مارست، منذ عقود خلت، عشقها لسابع الفنون في المدرسة الأولى: جامعة نوادي السينما. جيل السبعينات والثمانينات، ذلك الجيل الذي لا يتخلف عن أيّ حفل ثقافي، وأمام شريط من عيار «ثلاثون» تُطلق الصيحة جماعيا: هذا فلم لنوادي السينما بامتياز.
لأنّه فلم يحلو الحديث عنه ولا يدعك تتلذذ في كسل بليد وفي طمأنينة وهمية لحظات من حياتك المزوّرة ومن عيشك المفتعل السفيه وأنت في غربة عن زمانك تتعلق وهما بعصور مختلقة، مصطنعة تعشّش فيك بصور حمّضت بمخابر البخور الشرقي أو بعنابر الماخور الغربي، وفي الغالب هي صور من كلا المخبرين تتعايش فيك في وئام لأنّ الجوهر واحد رغم اللعب على ثنائيات الطهر والعهر والمدنّس والمقدّس والدنيا والآخرة من هنا... أو الجمال والقبح والنور والظلام والحياة والموت من هناك... هي صور، في كلتا الحالتين، تعتّم العقل وتحرّك الغرائز فتغيّب الإنساني وتستحكم في البهيمي.
وهذه الصور شلاّل أعتى من كلّ الأقدار نازل من السماء، سماء الأقمار، أقمار صناعية سخّرت لها تسخيرا... هي صور من برمجة آلهة جدد، عدوّة للحياة سالبة لإرادة الشعوب.
«ثلاثون»: صور التقطت بعيون فنّ تونسية من زاوية نظر صدق وواقعية وحمّضت بمخابز عراك الخبز اليومي في الشأن العام الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والفكري والسياسي.
فكر ساكن في فنّ أو فنّ مشبع بالفكر!.

بعد الفرجة الأولى خرجت من القاعة مثقلا، مسكونا، محمّلا بأوزار... وفي فمي طعم لذيذ بل خلفية طعم لروح مرّ كريح مخلفا أريجَ طِيبٍ... هي النشوة، نشوة الفنّ كنشوة المعرفة كنشوة تخلّفها الخمرة الجيّدة فلا تشعر بعدها بحاجة لثمر ولا نقل ولا بقل تمسح به بقايا طعم كالح لخمرة رديئة...
كنت رفقة رفيق من قدماء المجاهدين في الساحة الثقافية... استلّني من دهشتي واستفزّني بسؤاله عن رأيي في الشريط. فانتفضت ورفضت. وقلت: «ليس الآن» قال: «لماذا؟» قلت: «الآن صمت ومتعة وغدا حديث ونقاش» فضحك وقال: «فليكن: اليوم خمر وغدا أمر.»
وفي غد من الغدوات الموالية وصلتني دعوة لحضور عرض خاص ل»ثلاثون»، تنظّمه جريدة «الشعب»، يوم 5 ديسمبر، بمناسبة إحياء ذكرى اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشّاد.
وها هي الفرجة الثانية وقد زالت عنّي الدهشة وطارت السّكرة.
حلّ الغد ووجب الأمر.
لمّا انفتح أمامنا باب القاعة ودخلناها وجدنا «مْدينة» كما يقول الأجداد: «حلِّ المخزن تلقى مْدينة». «لِمدينة» مدينة تونس، الحاضرة في الثلاثينات، حاضرتنا.
فدخلناها بسلام آمنين.

سيِّدة المقَام حَاضنة الأولاد.
رُفِعَ الستار.
صور. صور للمدينة، لتونس الحاضرة. صور الحاضرة لا باعتبارها مسرح الأحداث وإطارها بل لأنّ الحكاية حكايتها، والأبطال أبناؤها. وهذا الفلم يصور مرحلة من أهمّ مراحل تاريخها الحديث: مرحلة المخاض.
هذه الأنهج والأزقة مسالكك اليومية وهي التي لم يبق منها إلاّ هيكل وقباب. وهذا الفاضل يعيد صياغتها، يبعثها من طيّ الزمن والأيّام فيبعث فيها الحياة بحزم من نور تنسج المشهد كما تنسج القيروانية سجادا من حرير. الباب... والقبة... والسقيفة... والنوافذ... والكوى... الفضاءات الداخلية... والدروب بين الربضين... ظلال وأضواء. صور من نسج شعاع أمل المسروقي(4) المسروق عبثا من الأقدار. الأمل المسروق من المسروقي خطفا من الدهر الغدار. لوحات نعم هي سجاجيد موشاة بأنامل قيروانية.
بعث.إعادة ابتكار.
بل هي أبهى من ذلك. لأنّك تُبْعَثُ معها من جديد. هذه الصور هي ذاتك، هويتك، منك، وإليك.
ترى الدور والأنهج حيّة بالناس يسعون. والمشاغل وبها العمال يكدّون ...
والجامع الأعظم بما يعتمل فيه من شؤون الدنيا والدين وما يشقّه من صراع بين الفكر والتكفير .....
والمطابع تتأرجح بين تأمين الربح وخوض الحرب... مع سوق الحبر أو مع أشرعة البحر...
والرشدية توقّع الطرب الجديد على إيقاع العصر وتخرج بالنغم من المقاصير وتأتيك بشادي الألحان مستجيبا للذائقة الجديدة، ملبيا لما يطلب سماعه المستمعون.
ومقرّ الخلدونية يخلع جدرانه لكي يجنّح خيال الشاعر في الآفاق البعيدة ويستفزّ الرياح والعواصف والأنواء ويخضع الأقدار لإرادة الحياة.
ومكاتب العدلية... والخيرية... ومقرات المنظمات... ومكاتب الأحزاب.... وقصر العدالة والمحاكمات... وإدارة الباي...
صور للمدينة في أيّامها، أيّام كانت المركز، وهي تنبض بناسها وتنهض بأولادها الذين فتحوا بوّاباتها السّبع لتعبّ من نسيم البحر ونسمة الجبل وتطرد الرطوبة التي عشّشت في قبابها... هذه المدينة تتجلّى وتزيدها بهاء لمسات استعراضية تلامسها العين بحنوّ في الملابس التي انتخبت بعناية فائقة فظهرت الجبائب البديعة مع مستلزماتها الأنيقة وتوّجت الشاشية الكلّ وهي التي كانت، لأسباب اقتصادية وثقافية وسياسية عنوان الهوية في مناسبات عدّة (مثل تمسك التلاميذ التونسيين بها في المدارس العصرية وتعرّضهم للعقوبات وللطرد أحيانا من الإدارة الفرنسية).
في موجة غضب، نزع الشابي شاشيته معلنا أنّه «يعرّي رأسه» ليخرج إلى الدنيا في هيئة جديدة... ويومَ همّ للعودة على عجلٍ إلى توزر لزيارة والده المريض... قدَّم له رفيقه شاشيته. !
إذا أخذ الشابي شاشية الحداد ليدخل بها على والده المريض. ولمّا وصل، كان فناء الدار غاصا بالنسوة، أجواء مأتم، أحسّ بهول الموقف، رأى المصاب يحلّ به. مرق بين النسوة متوتّرا بخطو منكسر وبعصبية نزع الشاشية وهو يلج الغرفة. لعلّه فهم أنّ رأسه «تعرّى».
أرأيت كيف كان للملابس ضلع في الموضوع؟ بل أساس في بناء الموقف؟ فهي في الديكور إن شئت ولكنّها أكثر من ذلك بكثير إذ هي في قلب الصراعات بين المحافظة وروح مواكبة العصر وفي نفس الوقت هي علامة احترام وشرط المثول في المقام...
للشاشية دلالات وعلامات شتّى، هي محلّ مفارقات. إنّه لمن الخطأ حصرها في خانة التقليد واعتبارها رمزا للمحافطة فحسب كما أنّ اعتبارها شرطا من شروط إثبات الهوية مجانبة للصواب.
هذا ما جاء في «ثلاثون».
هذا ما رأينا ولمن لم ير هذا ولا يريد أن يرى نقول:
في «ثلاثون»، «لمدينه» والكسوة والشاشية كسوة للحكاية، إن شئت، ولكنّها كسوة على المقاس.
فكيف تجرؤ بعض الأصوات الناشزة على الادّعاء بأن ذلك البهاء وتلك الهيبة والأناقة لم تكن إلاّ من قبيل «الصورة البريدية» (5)؟
السينما كتابة حديثة أبجديتها الصراع وحبرها الضوء. !

لقد ظهرت «لمدينه»، مثل الكسوة والشاشية، في السينما التونسية في عديد الأعمال وما كانت العين عيني وعيون باصرة كثر- تطمئنّ لصور للمدينة منها أُخِذَتْ، التُقِطَتْ، خُطِفَتْ تَسجيلا، تخييلا، حكيا، تعبيرا عمّا هي الآن أو ما كانت عليه في سابق الزمان... كم هي عديدة الأعمال التي اعتنت بالمدينة وعنتها، وجعلت منها موضوع السرد السينمائي أو إطارا له أو مسرحا لأحداثه أو خلفية توشّي به المشاهد... ولكنّها نادرا ما أظهرتها على وجهها الحقيقي، الموضوعي، الحي باعتبار أنّ الفنّ الصادق ليس تصويرا سطحيا وتزويقا لمناظر وتلفيقا لمشاهد و بهرجة للموضوع بل إنّ الحقيقة الفنيّة تكمن في رصد نبض الظاهرة وإرهاصاتها وتبدّلاتها وتطوراتها والصراعات التي تعتمل فيها.
الصراع هو العمود الفقري لكلّ حكاية. بالصراع ينهض العمل الدرامي ودونه ينتفي لأنّ محلّ الصراع في البناء هو مسكن الروح.

في المدينة، هو الصراع بين القديم والحديث، بين المحافظة التجديد.
نعم، ثمّة حكاية ميلاد لا ككلّ ميلاد. إنّه ميلاد الجديد. الجديد الذي ينبعث من رحم القديم. على الشاشة أمامك حكاية المخاض وأوجاعه وصيحة الوليد ينشد النور يريد أن يخرج للحياة.
هو الصراع بين الظلام والنور، بين الوراء والأمام. هو الصراع الأبدي بين التقليد والتجديد، بين الاتباع والإبداع، بين النقل والعقل. تذكّر «نصائح» الشيخ بلخوجة بعد اطلاعه على مخطوط «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» للحدّاد وهما في الجامع الزيتونة- ثمّ يسيران في الطريق العام حيث ينبض السوق حياة. التاجر يعلم الشيخ أنّ نصيبه من الفاكهة الجديدة جاهز والشيخ لا يرد بل يواصل خطابه الطويل الداعي لغلق أبواب المعرفة والتستّر على الحقيقة التي وإن منّ الله بها عليك فينبغي أن تحتفظ بها لنفسك وألاّ تنشرها للناس مخافة أن يلحقك منهم مكروه... هكذا الصراع يشقّ المدينة. كانت الكلمة للشيخ نفيا ورفضا، طولا وعرضا. وكان ردّ الحداد مختصرا، مصرّا، موجزا، قاطعا. فهمه الشيخ وعلّق: «قصدك تعدّدت الأسباب والموت واحد؟»
هو الصراع. الصراع محرّك. هو الريح النافخة على جذوة الحرية المتقدة أبدا في ضمير الشعب الحي.

لقد رأينا «لمدينه» في أواسط السبعينات في «رسائل من سجنان» لعبد اللطيف بن عمّار وهي مدينة 1952، مدينة إعلان المقاومة ضدّ المستعمر... فبدت بدورها وأزقّتها ومدارسها ومواطن العمل والعيش والنضال فيها تفوح برائحة الصدق... فالمكان والزمان والأحداث والشخصيات والحكاية ... كلّه في تناسب وانسجام. «في مَاهَا وِتْعُومْ»
وكذلك بداية شريط «عزيزة» لنفس المخرج إنتاج 1980- والذي يصوّر أحوال تونس ما بعد قانون أفريل 1972. حيث ينفتح الشريط على مشهد قوّي ومعبّر للغاية: أثاث البيت يكدّس في النهج الضيّق والأدباش تنزل. هذه العائلة تغادر «لمدينة» إلى حيّ من الأحياء الجديدة... تحوّل مجتمعي. مرحلة جديدة.
أمّا في ما عدا ذلك فهي في الأغلب موضوع حنين لدور وقباب، وأزقة وأبواب، وظلال ونور، ومسجد وماخور، وحمام وقبور، وكتاب وبخور، وحرير وعطور... كلّ ذلك بدعوى الحقّ في الميراث وإحياء التراث... وهكذا صور، مهما اجتهد مهندسوها ومديروها وتقنيوها، لن تشعّ حياة ما دامت فاقدة للروح.
ذاك منزع جديد، ساد منذ الثمانينات، عاد للقديم ليتعامل معه تعاملا متحفيا ويوظّفه خدمة لغايات هي إلى الموضة أقرب وإلى الاستهلاك الفرجوي أنسب.
ها هي «لمدينه» في «ثلاثون» تبعث من جديد حيّة شاهدة.

لا غربة، لا عجائبية. لا عجب، لا غرائبية.
صور. هي للحاضرة سيّدة المقام، حاضنة الأولاد.
الثالوث
هذا الفلم يقدّم ملحمة أبطال معاصرين يتحدّون الأقدار ويفتحون فجوات ويحدثون شروخا في أسوار السجون التي شيّدتها الآلهة والملوك والاستعمار.
تتتالى المشاهد. هذا محمّد علي والطاهر وبلقاسم ومعهم رفاق الدروب كالدوعاجي محفوفين بكلّ من رافقهم وشاركهم في حمل القضية. وهؤلاء من ناصبوهم العداء ووقفوا في وجوههم واصطفوا في صف الأعداء... قائمة الشخصيات طويلة وطويلة جدّا ولا يمكن حصرها إلا بالعودة إلى ملفات الشريط والقائمات التي لدى «السكريبت»...
لقد كانت المشاهد غالبا عامة أي في إطار الصورة ترى أكثر من شخصية. فالحركة جماعية. والقضية مشتركة... والبطل، في هذا الشريط، ليس واحدا ولا يمكن أن يكون واحدا. إنّما في كلّ مجال ثمّة متقدّم، متزعّم، قائد، رائد.

محمّد علي رافع راية العمّال.
بلقاسم يطلق جناح الخيال ويفتق اللسان ويحرر اللغة من قيود اللغو وينشئ كلما مشبعا بنور «الحقّ والجمال والحرية»(6).
والطاهر يفكّ أغلال المرأة وينزع عنها برقع النفاق وشعار الدونية ويدعوها للخروج، من الصدف، درّة بإرادة حرّة وذات مستقلة وحقوق الند للندّ ووضع اليد في اليد لإشاعة فرحة اليوم وبناء الغد.
قد تَذْكُرُ أنّك رأيت الشابي أو الحداد يستقلُّ بحقل الصورة للحظات، أتذْكُر مثلا جلوسه إلى مكتبه الصغير وعليه كتب وأمامه أوراق؟ لعلّ موضوع صورة كهذه هو إبداع النصّ الذي ينشأ من بين الأصابع فيكشف عن وجدان الشاعر أو عن مهجة المجتمع التي يعبّر عنها المفكّر.
كانت الشاشة في الأغلب عامرة بوجوه فاعلة، متفاعلة، منفعلة.
إذن الصورة مزدحمة بالشخصيات، حافلة بالوجوه وقد انتشرت مظاهر الاحتفالية في فضائها ذلك أنّ المخرج اختار أن يحتفل بالثلاثينات ويحتفي برجالاتها فسهر على أن تكون الصورة جميلة والمشهد بهيّا والحكاية رائقة والأولاد أبطالا، أما كانوا كذاك.؟ وهل ثمّة أروع منهم؟
عندما تسمع الحوار ويأتيك قول أحدهم: «بلقاسم» أو «محمّد علي» أو «الطاهر»، هكذا اسم بلا لقب، في الحين تزول الحواجز التي بينك وبينهم وتمّحي المسافات التي تفصلك عنهم، وإذا بيد خفيّة تلقي بك بينهم، وإذا بك معهم بل منهم...
جزئية من جزئيات عديدة بسيطة تنضاف إلى المجهودات الكبيرة المنجزة بحرفية عالية وخبرة وليدة دربة طويلة وشاقة في شتّى فنيّات الإخراج السينمائي وما جاورها وصاهرها وانصهر فيها من تقنيات الفنون الركحية.
تنفتح الحكاية على ملحمة محمد علي يغزل القول ويعرّي البؤس ويؤاخي السواعد ويوحّد الطريق ويؤسس. يخطب فيشحن أصحاب القضية ويكشف الأعداء والمنافقين.
والطاهر ما أن أتمّ وضع كتابه الذي به يؤرخ لظهور الطبقة العاملة وبدايات وعيها بذاتها وأوّل تجربة لها في التنظم المستقل حتى فتح الملف الخطير: ملف المرأة.

وبلقاسم... هذا الشّاب اليافع، الحالم كالرومنسي، المقبل على الحياة كما يقبل الطفل على تفاحته يعضّ خدّها النّقيّ ويتلذّذ طعمها الشهيّ...
بسرعة غاب محمّد علي، هُجِّرَ، نُفِيَ... وينظمّ إليهما، في الحكاية، علي، علي الدوعاجي ذاك الزاهي أبدا الذي أخذ الحياة التي خَبِرَ مأخذ اللاّهي حينا والماجن حينا، ولكن خلف هزلِه المنشورِ تصريحا ثمّة جٍدُّه المكنوزُ تلميحا.
يجمعهم الفاضل في مشهد خارجي مفتوح، في «نزهة رائقة»(7) «في شاطئ .. «(8) من شواطئ ضواحي الحاضرة.
في الصورة ثلاثتهم. وفي الصورة الماء والسماء، الأزرق والزرقاء، وما بينهما يومض خطّ الأفق تحت وهج الشمس الحامية، وعلى بساط الرمل فراش وطيّ ومجلس بهيّ وسمك مشويّ وخبز طريّ وأكل شهيّ و.. عنب رفرافي(9)...
في الصورة الماء والسماء. في الصورة ثلاثتهم. على الرمل ثلاثتهم: الصدر عار والسراويل بيضاء. زهو ولهو. عوم وطرب. عبث ولعب. أكل وشرب. وغناء.
إنّه نشيد الحياة.
هؤلاء المتخرجون من الجامع الأعظم قرؤوا الآيات باجتهاد اليسر وما راموا قراءة العسر. تعلّموا في مدارس تعرف طفلا من ذاك النهج يسمّى عبد الرحمان ويكنّى ابن خلدون. وفتّحوا أعينهم في متون هي منابع في شتى مجالات المعرفة فوجدوا أعلاما صارت منارات تهدي القلوب التائهة، الحيرى، الضائعة في مهبّ الرياح. متون متينة وهل ثمّة أوثق عروة من ابن رشد بفكره الرشيد وابن خلدون في وضع علم التاريخ وإرساء أسس العمران البشري والمعري في إمامة العقل والتوحيدي إمتاعا ومؤانسة وابن المقفع في أخلاق الساسة والعامة... حتّى لا نذكر من الأعلام إلاّ ما وقع تداوله في برامج الدراسة وصار علما في رأسه نار.

وعند باب المدينة الأوّل، باب البحر، استمعوا لنشيد الحرية الجديد الموقع على رياح المدنية الجديدة.
فكيف بالحياة لا يحتفلون ؟
وما بين المدينة والبحر طريق، هو باب البحر. وفي باب البحر تعشّش العصافير في كلّ ربيع.
إنّها عصافير باب البحر.
(البقيّة في العدد القادم)
(1) هل فعلا يعلم الجميع ونعني خاصة الأجيال الجديدة - عن أهمية الثلاثينات؟
(2) السيّد محمّد المي يصرّ إلحاحا على أنّ شريط «ثلاثون» شريط تاريخي رغم أنف المخرج. انظر مقاله بجريدة الصباح «: «ثلاثون» للفاضل الجزيري بين الانحراف الفنّي والتحريف التاريخي. الصادر أيام 13و14 و15 نوفمبر المنصرم والذي أفلح فيه السيد المي، بتعداده «الانحرافات» التاريخية، في تأكيد أنّ «ثلاثون» ليس فلما تاريخيا كما يتصوره هو. ويمكن أن نضيف إلى قائمته «انحرافا» آخر لم يتفطّن إليه رغم ضخامته وهو: شخصية الطفل عصفور لم يرد ذكرها في كتب التأريخ.
(3) لأنّ «ثلاثون» حدث ذو اعتبار كبير فإنّنا نعتبر أنّ الصحافة، بأنواعها، لم تغطّ الحدث بما يليق به.
(4) المسروقي: هو الحبيب المسروقي، واحد ممن أهدى إليهم المخرج شريطه «ثلاثون»، والمسرقي رفيق درب للجزيري وجماعة المسرح الجديد وهو فنّان متميّز وذو حسّ مرهف خاصة في مجال الأضواء وقد رحل مبكّرا.
(5) انظر مقال السيد: اسماعيل. الصادر بالطريق الجديد عدد:103، السبت 22 نوفمبر 2008، بالقسم الفرنسي بالصفحة الخامسة وقدّمت له الطريق الجديد بصفحتها الأولى في مساحة تتجاوز عشر الصفحة. وعنوانه: Lartificiel et le maniéré. : Thalathoun de Fadhe Jaziri
(6) العبارة للشابي: لنحلق في سماء الحق والجمال والحرية.
(7) «نزهة رائقة» عنوان أقصوصة للدعاجي ضمن مجموعته. «سهرت منه الليالي». وقد تمّ إخراجها للسينما تحت عنوان. «في بلاد الترنني»: شريط قصير لفريد بوغدير 1974.
(8) «في شاطئ حمام الأنف» أيضا عنوان أقصوصة للدعاجي ضمن مجموعته «سهرت منه الليالي».
(9) هذه الفقرة تذكّر بالوصف الوارد في إحدى مقامات بديع الزمان الهمداني...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.