"يناير يا ثائر يا بو المفهومية ما فيشلك دليل غير عيون الكلام". رحم الله شاعرنا الكبير أحمد فؤاد نجم، لقد استشرف حقا أن الشهر الأول من السنة الميلادية كان و سيبقي شهر انتفاضات و ثورات الشعوب على حكامها الذين لا يتوانون عن تفقيرهم و تهميشهم و لسان حالهم يقول بكل صلف و حماقة "ردّدوا ما شئتم من شعارات و قولوا ما بدا لكم ولكننا لن نفعل إلا ما يخدم مصالحنا على جميع الأصعدة و خاصة التوطين في كراسينا و مناصبنا واقتسام غنائم و خيرات البلاد دون أن ننسى ما ورثناه عن أسلافنا الذين حكموكم فنترك لكم الفتات و نعطيكم من طيب اللسان حلاوة و نراوغكم مراوغة الثعالب." إن الواقع اليوم في بلادنا شمالا جنوبا شرقا و غربا يؤكد ما ذهبنا إليه من تحليل في بداية مقالنا، إذ تشهد مناطق مختلفة من بلادنا سلسلة من الاحتجاجات و المسيرات منذ مفتتح شهر جانفي-يناير 2018. ففي الكاف و بالتحديد في ساقية سيدي يوسف، أعلن عن الاضراب العام يوم الاثنين 8 جانفي 2018 فشلّت بسبب ذلك كل الخدمات بالمؤسسات الخاصة و العمومية ما عدا بالقسم الاستعجالي بالمستشفى، و في ولاية القصرين، قامت احتجاجات جدّت على إثرها مواجهات بين المتظاهرين و قوات الأمن… و تأتي هذه الانتفاضة و هذا الاحتقان بعد أن بلغ اليأس بالمواطنين و بالمواطنات مداه و استيقنوا أن وعود الحكومات المتعاقبة منذ 14 جانفي 2011 هراء في هراء و لا تعدو أن تكون إلا في خانة سياسة التسويف و المماطلة بالضبط كما يقول المثلان التونسيان "عيش بالمنى يا كمون" و " وين تراني اصبر عليّا نهار". و قد قرر أهالي ساقية سيدي يوسف مواصلة الاحتجاجات و نصب الخيام معلنين الاعتصام بعد أن رفعوا شعار "ديقاج" في وجه الوالي كاحتجاج صارخ على تزويره للحقائق و اتهامه للمحتجين بأن مسيراتهم لم تكن سلمية قد عدّت للتخريب و للإضرار بالممتلكات العمومية على حد تعبيرهم . إن رقعة الاحتجاجات تزداد توسعا وتكتسح العديد من جهات البلاد بعد الزيادات الأخيرة في كل المواد الأساسية و الضرورية في حياة المواطن: المحروقات، الماء، الكهرباء، الدواء، القيمة المضافة، التأمين، فاتورة الهاتف، مواد التنظيف، الزيت، القهوة، الشاي و السكر. و في كل مرة تشهد بلادنا احتجاجات اجتماعية ترفض غلاء الأسعار أو تطالب بحقوق مشروعة يطلع علينا كل من هب و دب مؤكدا على أن المسيرات و الاحتجاجات حق يكفله الدستور مندّدا بالأعمال التخريبية التي تطال الممتلكات العمومية و الخاصة. و قد يذهب البعض إلى أن هناك أطرافا سياسية ترى أنه من مصلحتها تأجيج الوضع الاجتماعي بالبلاد و إحداث الارباك للحكومة حتى تفشل. و لكن هل يحق لنا أيضا أن نتساءل عن إمكانية وجود أطراف في الأحزاب الحاكمة وراء انحراف المسيرات عن مسارها المطلبي السلمي تجعل الرأي العام يتبرأ من المتظاهرين و ينعتهم بشتى النعوت القبيحة بعد أن شهد التاريخ عن مثل هذه الممارسات، فالنظام النوفمبري و النظام البورقيبي كانا يدسّان ميليشيتهما في مظاهرات الطلبة و العمال حتى تقوما بعمليات التخريب و النهب لإقناع التونسيين بأن الذين تظاهروا لا يريدون الخير لتونس وهم شرذمة ضالة من المجرمين و اللصوص فيكسبان مواقف المواطنين المستنكرة لهذا العنف و الشغب؟ وقد يرد علينا البعض بأنه ليس من مصلحة الأحزاب الحاكمة و نعني بالتحديد النهضة والنداء إدخال البلاد في أتون الفوضى و الانفلات الأمني، و جوابا عن ذلك نقول أن البعض من هؤلاء يفعلون بالبلاد و ببعضهم ما لا يفعله العدو بعدوه، أ لم نشاهد الضرب بالعصي و كيف بلغت درجة العنف أقصاها في مقر النداء ذات صيف من أجل التزاحم على الكرسي مهما كان الثمن؟ أ لم نستمع إلى رئيس حركة النهضة مرارا و تكرارا و هو يقول أن النداء أخطر من الإرهاب؟ أ لم يعش الشعب التونسي تحريض هذه الأحزاب بطرق شتى على إدخال البلاد في حرب أهلية من قبيل "موتوا بغيظكم"؟ سمعنا -و هذا موثق عندنا- رئيس حزب نداء تونس يقول في حملته الانتخابية سنة 2014 أن حركة النهضة تريد أن تعود بالشعب التونسي إلى القرون الوسطى، و بعدها وبقدرة قادر التفت الساق بالساق و تشابكت الأيادي و رأينا القبلات، قبلات عربية لها أنياب، ولاقتسام الغنيمة كان المساق. و لئن احتجت بعض الأطراف السياسية عن المسيرات الليلية و خافت من اندساس الارهابين و المهربين في صفوف المحتجين و حصول ما لا يحمد عقباه، أ فلا يستحي هؤلاء من أنفسهم؟ أم أن وجوههم نضب منها ماء الحياء و ظلوا يتصارعون من أجل الكراسي و المناصب؟ إن الأدهى من ذلك أنهم يتلونون أكثر من الحرباء في اليوم مرات و مرات يمدحون ثم يذمون فهم الكذابون و المنافقون، و نحن نرى اليوم كيف أن الخلاف بين النهضة و النداء أضحى على أشده بين عشية و ضحاها: زواج متعة في صحفة عسل يتعايشان ثم الطلاق و الفراق إلى أن يأتي ما يخالف ذلك. كانت والدتي رحمة الله تقول " امنين كنا وكان العقل بيك رايح وقت خبنا و خبتم حتى الحلو ولى مالح". هؤلاء غير عابئين بما يجرى حولهم و بما يهدد البلاد من أوضاع كارثية قد لا تبقي و لا تذر و إذا استيقظوا شغّلوا شرائطهم المشروخة و هم بذلك في استبلاههم لشعبهم يعمهون.