تعددت الايام الاخيرة الروايات وتتالت الحكايات الى حد استحضار كل تقنيات الميلودراما الفنية وحتى استحضار كل عناصر الميثولوجيا، وآخرها ما حبّره مدير الصحيفة الالكتورنية "موند أفريك" نيكولا بو، حول مآمرة تحاك على تونس وحكومتها ونظامها السياسي الحالي، ومحاولة انقلابية كان سيقودها لطفي براهم، رجل الظل الذي فرضه السبسي على الشاهد قبل قرابة ثمانية أشهر، في سابقة يقع اسناد الداخلية فيها لأمني من داخل الوزارة شغل آمر الحرس الوطني لمدة فاقت السنتين بقليل. والحقيقة أن السيل العارم والعاصفة الهوجاء من النصوص ارتقت بأمر الانقلاب المذكور الى مستوى الحقيقة، من شدّ القصف المركّز والكثيف والصخب العالي الذي احدثه والغبار الذي عمّ كلّ الفضاءات، حتى أن البعض صار في مخياله انتشار دبابات بعد انزال اماراتي سعودي يمتطيها رجال وحتى نساء بأزياء وزارة الداخلية وفي القيادة براهم، وفي كل المفترقات تنتشر الدوريات المدججة بالسلاح ترهب العباد، والتلفزيون الرسمي بقناتيه يقع احتلاله ويصدر البيان رقم واحد بصوت حاد متماسك كله ترهيب، مؤكدا أنّ الوضع تحت "السيطرة التامة" وفي الافق المنظور "ستعود الامور الى نصابها كاملة". وكأنّ البلاد خالية على عروشها ولا يوجد بها لا شعب، ولا دستور ولا تشريعات ولا مؤسسات ولا قضاء ولا اعلام ولا مجتمع مدني ولا منظمات نقابية ولا نخب، ولا بعثات دبلوماسية ومنظمات دولية، فقط أرض يقطنها الأشباح وكل من تسوّل له نفسه ارتكاب أكبر جرم بالانقلاب، يجد نفسه في طريق مفتوح وقد تأتي حتى الملائكة بأثوابها البيضاء لتحف طريقه، وتسنده بالاف من افرادها مردفين او حتى مسوّمين، وربما قد تكون الحشود على الممرات بالورود والازهار، تهلل وترفع شعارات النصر المجيد. صحيح براهم وهذا ثابت ودلل عليه انصهاره داخل الحلف الاماراتي السعودي الاستأصالي، وصحيح أن براهم ارتكب جرما سياسيا ودبلوامسيا فظيعا بما قام به من لقاء خارج البرنامج وخارج الاعراف الدبلوماسية مع العاهل السعودي، والتمديد في البرنامج والعودة في طائرة سعودية ملكية، وربما لقاء المخلوع وهو ما دوننا حوله نصّا مفصلا في ابانه اعتمادا على مجموعة تغريدات في الحساب المعروف "مجتهد"، والأصل أنه كان لزاما حينها عزله بصفة فورية، لتدخله في مجال الخارجية والتطاول على نظام الدولة، واحالته على القضاء للتحقيق معه في التجاوزات التي قد ترتقي للجريمة. ولكن اليوم أن يسوّق الأمر أنه بصدد التخطيط أو الشروع في تنفيذ محاولة انقلابية، وأنه كان مالكا لكل خيوط اللعبة، وذلك تحت وابل من الكتابات ذات المرجعية القطرية، التي وجدت الفرصة سانحة لاستغلال الملعب السياسي التونسي، لتصفية حسابات قديمة مع الغريم السعودي والاماراتي، فهذا اعطاء الرجل حجما أكبر من حجمه بكثير، واظهار تونس في مظهر البلد الخارب الذي يمكن ان يتبوّل فيه من هب ودب، والاساءة بالفعل بليغة، والأمر يطال جيشنا الوطني الباسل الذي يراد اظهاره في دور المتواطؤ ان لم يكن المشارك، كما يطال القوات الامنية التي لا ينكر بداية تعافيها والتاسيس داخلها لعقيدة امنية جمهورية. صراحة اقرأ ل "نيكولا بو" في الموقع الالكتروني موند أفريك منذ أن أنشأ قبل بضع سنوات، وأتابع أغلب ما يكتب حول تونس سياسيا أو اقتصاديا أو امنيا، والثابت أن "بو" له سعة اطلاع على الواقع التونسي وقدرة على التفكيك والتحليل، ولكن في عديد الاحيان يعطي معطيات خاطئة أو أرقام مختلة ناجمة عن عدم مواكبة مباشرة للاحداث، وما نقله في مقاله الاخير عن تونس وعن براهم، بعيد كل البعد عن الحقيقة وأغلبه مجرد تأويلات، وزاوية نظر مدير تحرير "موند افريك" مع تونس بشكل عنصري، ظهر كان يحلل القضية وكأنّ تونس أحد البلدان الافريقية التي لازالت تعيش الحكم شبه القبلي، وكأنها لم تعش ثورة ومسار انتقالي وانتخابات تعددية وتسن دستور ومؤسسات، ولازال ينظر بعين الاستعلاء و المركزية الغربية الفرنسية مرجع الديمقراطية ومهد حقوق الانسان والحكومات المدنية، وحتى "غمزة" انقلاب بن علي فقد كانت أكثر غرقا في النظرة الفوقية، ولا يعلم ان الشعب اليوم قد يقبل بكل شيء الا الانقلابات، وقد تحرر بعد الثورة من الخوف وانعتق من الرضوخ والخضوع. البعض لا يعلم أنّ الانقلابات المسلحة تتطلب جملة من العناصر، وقد توجد المغامرات وعمليات تهوّر كبير، ولكنها تكاد لا تذكر فاليوم كل التشريعات في العالم تقريبا تحكم بالاعدام على مرتكبي زعزعة النظام بالطرق المسلحة، وبنفس العقوبة مجرد المحاولة والتخطيط والمساعدة وحتى التستّر، وبالتالي فالامر ليس مجرد تسلية او نزهة في بستان، وزيادة فالامر يتطلب موارد بشرية وأسلحة وخاصّة خاصة قدرة استعلاماتية وسريّة مطلقة، وتنسيق ولوجستيك متناغم بين عناصر شبكة واسعة وعميقة متغلغلة في كل المفاصل، وهو ما لا يمكن تحقيقه في واقع الحال، ولكن التهويل والفزاعات والاذرع الاعلامية جعل الامر يستقر في وجدان المواطن الرزاح تحت ضنك الحياة، وتنزل عليه الراجمات التي تستهدف سكينته وامنه ووجوده فيسلم بشكل لا طوعي. وما يثير الغرابة العميقة أن الانقلابات هي بالأساس عسكرية، يعني يقودها عسكريون ويستعملون فيها قوات وعتاد من الجيش، لكن هذه المرة الحديث يدور حول انقلاب أمني، الامر نادر الوكود ان لم يكن مستحيل الحصول، لأنّ تشتت القوات الأمنية وعدم خضوعها لنفس مركز القيادة مثل الجيش يمنع التنسيق الاساسي لكل انقلاب، كما أن عدم حيازة القوات الأمنية للسلاح الثقيل والدبابات لا يسمح بالسيطرة، وعمليا لا يمكن بالرشاشات والاسلحة الخفيفة اخضاع المواطنين، وزيادة فالداخلية تاريخيا وهذا من بداية حكم بورقيبة المرعوب من الانقلابات مقسمة بشكل يجعلها غير متناسقة، والحرس اليوم كما فرقة النظام العام والاستخبارات والامن العمومي ومكافحة الارهاب، تعمل بشكل شبه مستقل وفي وضعية تضارب. كما أنّ الجيش المشكل فيما يقارب السبعين ألف عنصر في وضعية موازية مضادة في في القوة ومنفصلة في القيادة والتسيير والثقافة والعقيدة، وزيادة فالحرس الرئاسي المتشكل في ما يزيد عن 3 الاف عنصر مستقل على الداخلية، وبالتالي فتضارب المرجعيات والانتماءات والقيادة والبنية والعتاد لا يسمح بمرور محاولات انقلاب على الشرعية، الشرعية التي أسستها الثورة وتكرسها دوريا انتخابات معترف بها داخليا ودوليا، والشرعية الداخلية كما الدولية لا تسمح بحال بقانون الغاب والفوضى والا انخرم النظام الدولي. ولا توجد انقلابات ان لم تدعمها قوى دولية نافذة، الامر غير الحاصل في تونس حاليا، بالنظر الى وجود حكومة منتخبة ولكن ايضا ممثلة لقوى مختلفة، ولا يوجد طرف وحيد ضعيف متفرد بالحكم يمكن الانقلاب عليه واستهدافه دوليا، والقوى الديمقراطية الغربية لا يمكن تورطها في هكذا وضعيات، تسيء لصورتها وتاريخها ومبادئها، وحتى ان تورطت فقد كان تورطها في ظروف سانحة، مثل الذي وقع مع بن علي حيث تهرم حكم بورقيبة وكان النظام استبدادي، الامر الذي جرفته الثورة وقطعت معه، وحتى ما حدث في مصر لا يمكن استنساخه بحال في تونس، باختلاف السياق والظروف في كل شيء. التوازنات الدولية في الداخل وتَنَفّذ الاستخبارات الدولية في تونس، لا يسمح بحصول انقلابات ان لم تحز توافق تام بين هذه الاطراف الدولية، والهشاشة الامنية المفرطة في الخارطة الجيوسياسية الحالية، مع تواصل الخطر الارهابي المهدد للحدود الشمالية المتوسطية، لا يسمح بمجازفة غير محسوبة حتى ان وجدت اطراف تدعم هذا النهج، خاصة مع تواصل الانهيار الليبي والكلفة الباهضة اليوم لأروبا في الهجرة غير النظامية، ما يجعل الأمر بعيد التصوّر والامكان. من جهة أخرى الاختراق الحزبي بعد الثورة في الداخلية والنقابات الامنية، يجعل أمر الانقلابات غير ممكن بالمرة، فوجود ثلاث حساسيات سياسية تجمعية (ندائية) ويسارية التحقت بهم اخرى نهضوية في السنوات الاخيرة، في مستوى القيادة كما في مستوى القاعدة، لا يسمح أولا بالخضوع الهرمي بتنفيذ اوامر انقلابية، كما يكشف مسبقا كل مؤامرة في مهدها، باعتبار ان انتشار الامر يضر بركن السرية المطلقة الاساسي في كل انقلاب، وبالرغم أن هذا المرض السياسي داخل المؤسسات الادارية والامنية مخالف للدستور والقانون، فانه واقع معروف ويحول بقوة دون هروب أيّ طرف في انقلاب على الشرعية. ولا نظن اليوم بتاسيس مجتمع مدني وحقوقي صلب، ومنظمات نقابية زادت نضجا ومراكمة للخبرة السياسية، ان تمر محاولات الانقلاب دون تصدي حاسم، كما ان تضارب اجندات الاعلام وارتباطاتها الداخلية والخارجية والايديولوجية، لن يسمح بحصول دعم موحّد لما يخالف الشرعية، وأكيد أنّ البركة الكبرى هي في هذا الشعب الذي لن يسمح بحال، سواء عبر تطور استعمال الميديا الجديدة في شبكات التواصل الاجتماعي او عبر الحضور الميداني بمرور اجندات تخريبية، خاصة بوجود احزاب وازنة بقواعد واسعة، ووجود نخب مهما سقطت لن تدعم الانقلابات الدموية، وخاصة خاصة من عامة هذا الشعب الذي انعتق من الخوف وتحرر من الخضوع، ولن يقبل ثانية الرجوع لحكم الحديد والنار. ولن تكون بذلك الانقلابات في تونس بعد الثورة، سوى وهما في بعض الرؤوس الداخلية او الخارجية، المنعزلة عن حقيقة منجز الشعب الجبار الذي قاد اكبر ملاحم التحرر من الجبروت في القرن الواحد والعشرين.