يا أيّها الناس... يا أيّها المتناثرون هنا وهناك...يا أيها الموزّعون في أوطان غير أوطانكم، بين ثنايا الهجر والتهجّر والرحيل... يا هؤلاء المتفرّجون أمام الشاشات، المسافرون في عناوين الصحف والمجلاّت، والمتجوّلون بين أمواج الإذاعات... يا أيها الناس قد تتساءلون من نكون نحن؟ ومن أيّ الأماكن نخاطبكم؟ فقبل أن نسكب على هذه المساحات الصغيرة بعض أحلامنا المهشّمة على ضفاف المسافات الطويلة، وقبل ترجمة رحلات أعمارنا الثقيلة، نستسمحكم في تسجيل وصايا النهايات الأليمة، وكل خلاصات أيامنا الثقيلة...فاعذرونا أيها السادة إن كنّا اقتحمنا مجالسكم بهمساتنا المكلومة وتسجيل شهادات أعمارنا المستقيلة...اعذرونا أيها السادة إن كانت كلماتنا مالحة، وتعابيرنا مالحة، وجلودنا مالحة، وأجسادنا مالحة وأحلامنا مالحة، كملوحة رغيفنا الهزيل في ليلنا الطويل... اعذرونا أيها السادة إن كانت ذبذبات أصواتنا تأتيكم ثمّ تغيب، ذلك لأننا نخاطبكم من المحيطات المنقضّة على أحلام الفقراء، نكلّمكم من زوارق الموت والعذاب، نحادثكم من المراكب التائهة والمتناثرة هنا وهناك بين أمواج الغريق، في بحار مضيق جبل طارق، في جزيرة صقلية في مياه إيطاليا... في حدود "كالي" وكل المياه الإقليمية، المحاذية للجنوب الحالم منذ نصف قرن بفتات رغيف ولحظات كرامة... نخاطبكم من الجسور الخطيرة التي تمرّ فوقها آلاف الحيارى المتعبين، الحالمين بقليل من الزيت والزيتون، وقليل من العدالة وحرية التعبير، نخاطبكم من الغابات المخيفة التي تبتلع أنفاسنا عند التسلل والمرور ...نخاطبكم من كل الموانع والممرّات المستحيلة... أيها الناس مرة أخرى تتساءلون من نكون ؟ نحن أولئك الذين تأتيكم أخبارنا كل مرة وكل حين، نحن الغرقى الذين تصفعكم صورنا كما تلطم الملايين... نحن جيل "الحرقة" جيل الفارّين من الأوطان، نحن الهاربون الفارّون من سعير الهتاف والخطب والكلام... كانت لنا يوما بيوت وأحلام... كانت لنا أرض وكروم وزيتون وريحان... كانت لنا حدود وبلدان... كانت لنا أمهات وتلاحين وأوطان... كانت لنا أناشيد ووعود تشبه الخيال... كانت لنا عناوين كثيرة ودول تهذي بجنّة الاستقلال... كانت... وكنا نحلم كما تحلمون أنتم في الغربة بوطن فسيح يدثركم بالحنان... كنا نحلم كما يحلم شباب العالم بالكرامة والمستقبل الجميل...بيد أنهم أحالونا على مستنقعات الانتظار فظللنا نعانق الوعود ونجني السراب، حتى لم يبق لنا من حلول سوى الهروب والفرار... فكانت بدايات رحلات الضباب... وكانت نبرات أصواتنا تجيئكم مهشّمة وهمساتنا إليكم تأتيكم مبتورة كعبور لم يكتمل وكأحلام من سراب، ذلك لأننا الآن نخاطبكم من بطون الحيتان، لسنا يونس عليه السلام، فيونس عاد من سفر المحنة والعذاب، ونحن عدنا إلى الله ليسألنا من المتسبب في تشريدنا... من المتسبب في تدميرنا... من المتسبب في تهجيرنا... من المتسبب في انتزاع رغيفنا... من المتسبب في قصف أعمارنا... من المتسبب في ضياع زماننا... من المتسبب في نهب أراضينا... فيونس رجع إلى الأرض ونحن رجعنا إلى السماء، لنشكوا إليها ظلم أولي الألباب وقسوة العباد... فيونس عاد من بطن الحوت ليرجع إلى الحياة ونحن خرجنا من الأرض لكي لا نعود للفقر والحرمان فانتهينا إلى أمعاء الحيتان.. أيها الناس نحن المسافرون في الخطر وفي حديث المسافات الأليمة، نحن المهرّبون في الشاحنات الكبيرة والمثنيين كما تثنى قطط الشتاء، نحن المطويّون خلسة مع البضائع في الباخرات التي تحمل أطنان السلع والكراتين والأشياء القديمة... ونحن المتسللون من الجبال وكل المسارب المطلة على ذاك الشمال الذي لا يشبه أراضينا، ذاك الشمال الذي يمكن أن يكون جسر عبور يترجم بعض أمانينا، ذاك الشمال البارد الذي يمكن أن يلتقي مع شمس جنوبنا، فتنتعش الأراضي وتشرق العقول، ليندثر صقيعه وتختفي بعض مآسينا. أيها الناس نحن هؤلاء أولئك التائهون في المعابر الخطيرة، المتعبون من التنقل والاختفاء وقطع الثنايا الملتوية الطويلة، نحن المتصارعين مع أمواج البحار المتلاطمة الثقيلة، الخائفين من حرّاس الحدود والجمارك والدوريات الكثيرة.. أيها الناس لقد قالت لنا يوما الحيتان، يا أيها العابرون الفقراء ما الذي دفع بكم للارتماء في بطوننا وأنتم في أعمار الزهور.. ما الذي جعلكم تفارقون الأرض والنخيل.. ما الذي دفعكم إلى مغادرة الأوطان والتعلق بالرحيل.. فأين تلك الأناشيد الجميلة ومواعيد الانتخابات الكثيرة.. لقد تهاوت زوارق أحلامكم بين فوضى الكلام والتنظير، وارتطمت مراكبكم على ضفاف أرقام الانتخابات المكررّة والخطب والوعود المزوّرة وكل الأوراق والنسخ المعدّلة، التي تجترّ نفس الأرقام ونفس الأسماء ونفس المشاريع ونفس المهزلة... لقد قالت لنا الحيتان يا هؤلاء " السوّاح " السابحين في عمق الترحال والغريق.. يا شهداء أوطان تختزن ثروات السماء وتمنعكم من ربع رغيف.. يا هؤلاء الفارّين إلى المجهول، لقد ساقتكم أقداركم ودفعتكم بلدانكم إلى الهجر والترحال والرحيل..حدود وعسكر وطبول..مكاتب موظفون أوراق نائمة وتقارير...أعلام وشواطئ وحقول... أراض شاسعة وقمر وشمس وأصيل... حضارة وتاريخ ومفردات تزرع النسيم... نفط وصحاري وكروم... مباني وتواريخ وأعياد وطنية وقصور... والنتيجة بئس المصير... فأي بشر أنتم تشبهون، وأي كلام بعد اليوم تتكلمون، وأيّ نشيد وطني بعد اليوم تعزفون... اعذرونا أيها السادة إن كان كلامنا هذا يقترب من مناطق الجنون، فلم نجد خيارا إلا ركوب زوارق الموت والارتماء في مربع الموت والمجهول، فقد احترقت من وراءنا كل مراكب العودة إلى تلك الأوطان التي ما عاد يهمها أن ننتهي إلى هذا المصير، كما لا يهمها أولئك الشباب المحتجزون هنا وهناك وفي كل مناطق العبور، ولا أولئك الرعايا المضربون عن الطعام، واستعدادهم للموت من أجل بطاقات إقامة بلدان أخرى تضمن لهم معنى العيش الكريم، وهم مرميون في الكنائس في الساحات وعلى الرصيف، وبلدانهم تتفرج على هذه المشاهد وهذه الفصول التي يبيض منها الحبر ويحمرّ منها القلم وتخجل منها السطور... أيها الناس إلى هنا ما عاد ينفع الكلام فقد خرجنا من دنيا الأحلام المنقوشة، والأعراض المفروشة، والمشاريع المبثوثة، خرجنا من دنيا الجنان، التي يجري من تحتها هذيان الحرية والعدل ونعيم الاستقلال، لنكتب على مقابرنا المخفية ترانيم هذه المأساة الإنسانية. يا ساقي الحزن في أوطاننا تمهّل ولا تتعجّل ففي بلداننا نهر من الحزن يجري في مآقينا لا الكلام ينفعنا ولا الخطب تسعفنا ولا الأناشيد تنقذنا ولا الهتاف يجدينا يا سامر الليل تمهّل فقد انطفأت الشموع وخابت أمانينا كم من زمان كئيب الوجه فرقنا واليوم متنا ولا زالت نفس الجراح تُدمينا