لا اختلاف حول ضرورة إصلاح التعليم التعليم العالي و البحث العلمي لكن هل اتفق أصحاب الشأن في توصيف حقيقة الأمراض والآفات التي أصيب بها التعليم العالي حتى نستطيع أن نجيب على السؤال المفتاح: كيف ومن أين نبدأ الإصلاح؟ سال كثير من الحبر حول مشاكل التعليم العالي والبحث العلمي ونادى مناديا هلموا إلى الإصلاح وتكونت اللجان و تصارعت الأطراف المعنية باسم الشراكة التي لا مفر منها لاتخاذ موقع قرار داخل هذه اللجان وسيس الإصلاح و أدرج ضمن المزايدات ليصبح بعد ذلك هو بنفسه في حاجة للمعالجة. هل نواصل ما بدأناه؟ أم نغير الاتجاه؟ العديد منا يتهرب من كشف حقيقة واقعنا هذا ولا نرغب في الاعتراف بأن الأرضية التي نريد أن نبني فوقها صرحا جديدا للتعليم العالي والبحث العلمي من الهشاشة بمكان وأن واقع حالنا تطغى عليه سلوكيات إن لم نعالجها "طوعا أو كرها" "حبا في بلدنا أو انضباطا للقوانين" لا يمكن أن تؤدي بكل مشروع إصلاح مهما كان متقنا ومقنعا على الورق إلا إلى الفشل والتحريف عند التطبيق. كنا قبل الثورة نتألم لحال واقعنا الذي اجتهدنا في فهمه وتوصيفه: واقع تحكمه علاقات قائمة على قلة متنفذة وأغلبية مهمشة ومسحوقة. واقع تحكمه النظرة المصلحية الضيقة ولا اعتبار فيه للمصلحة الوطنية. واقع فرض على العديد ثقافة " الخوف والطمع" . واقع أصبح الإبداع فيه استثناء والسطو على الفرص والانتهازية شطارة وحسن تدبير. واقع فيه الحديث عن حق النفاذ للمعلومة تطاول والمطالبة بالشفافية من قبيل الجريمة. واقع فيه جودة التكوين وتكافؤ الفرص والكفاءة والمصداقية العلمية حلم صعب المنال. واقع يحس فيه الحريص على أداء واجبه المهني على أكمل وجه بالغريب على زمانه والمنبت عن محيطه. واقع أصبحت فيه المسالك والاختصاصات تبتكر لا لسد حاجة البلاد بل على قياس الزوج والولد و… واقع فيه التعيينات هدية العيد للأصحاب والأحباب. واقع يقام فيه البحث العلمي من أجل المراتب لا من أجل البلد. واقع فاحت فيه روائح فضائح الإنتحالات العلمية هنا وهناك بدون رقيب ولا حسيب. واقع تحولت فيه انتخاباتنا الجامعية من عرس للديمقراطية إلى مناسبة للابتزاز والترهيب والوعيد وعقد الصفقات وتصفية الحسابات و…. واقع …..واقع …..واقع ….. تعجز الكلمات عن هجائه بما يستحق. مضت 3 سنوات على ثورة الحرية والكرامة وعلى استشهاد زميلنا حاتم بن طاهر وكل شهداء الوطن من أجل القطع مع مثل هذا الواقع وتعاقبت العديد من الحكومات ونشطت الجمعيات والنقابات فهل تغير واقع الجامعة التونسية وهل شهدت السلوكيات والعقليات التي ساهمت على امتداد عشرات السنين في استفحال المشكل انحصارا وتقهقرا؟ هل تغيرت مواصفات واقعنا ؟ أجزم أن الجواب الصحيح هو لا ولي من الحجج الموثقة الكثير ويشاطرني في ذلك الكثيرون. هل التسريع في الانخراط في صياغة مشروع الإصلاح الشامل أرسل ببصيص أمل لتغيير حالنا؟ هل يجب أن ننتظر ليكتمل المشروع لنبدأ بإصلاح حالنا؟ لا يقول بهذا إلا من يريد أن تتواصل وتكبر معاناتنا وآلامنا ويريد وأد أحلامنا. هل يمكن أن نغير كل هذا في وقت وجيز؟ بالطبع لا. ما هي الأولويات وما هي الإجراءات العاجلة التي يمكن أن تضعنا على الطريق الصحيح وتعالج آفات واقعنا الأكثر تدميرا وتوقف النزيف ولو جزئيا؟ أكبر آفات التعليم العالي (وجل القطاعات) هي انقسامه إلى قلة " لوبي" محتكرة للنفوذ وأغلبية مهمشة. بداية علاج هذا الداء وتفكيك شفراته يكمن على المستوى المتوسط والبعيد في التعجيل بتغيير القانون الانتخابي وخاصة ما يتعلق منه باعتماد مبدأ الانتخاب المباشر. هذا الإجراء له أيضا انعكاس إيجابي للحد من تأثير العديد من السلبيات الأخرى. ثاني أكبر عائق أمام إصلاح حالنا هو غياب الشفافية والحوكمة الرشيدة في التسيير المالي والإداري والبيداغوجي في مؤسساتنا وهياكلنا العلمية والبحثية وفي عمل لجان الانتداب والترقية. الحل يكمن في الإرادة الحقيقية من سلطة الإشراف لفرض تكريس الشفافية في إدارتها وعلى الجامعات والمؤسسات الراجعة لها بالنظر وضمان حق النفاذ إلى المعلومة بعيدا على سوء استغلال مبدأ السرية وإيجاد آليات مراقبة لذلك بمساهمة المجتمع المدني. (بعث هيكل في الإدارة المركزية ولجان بالجامعات والمؤسسات بمشاركة ممثلين على المنظمات والجمعيات ذات الصلة تعنى بالمساعدة على تكريس الشفافية والحوكمة الرشيدة ومتابعة التنفيذ). كما أن إحداث هيكل خاص بالإنصات وتقبل التشكيات والإقتراحات وتمتيعه بصلاحيات واسعة وبارتباط مباشر مع الوزير يشعر عموم الأساتذة بالأمان ويخلصهم من بعض الخوف ويشجعهم على مقاومة الظلم ورفضه. ثالث أكبر عائق أمام جودة البحث (زيادة على نقص الفضاءات) هو توظيف مقدرات ووسائل البحث وخاصة منها المتعلق بالمعدات المشتركة من طرف أغلب المشرفين عليها في التجاذبات سواء المرتبطة بالعلاقات الشخصية أو بالانتخابات الجامعية. الحل يكمن في إرادة حقيقية لإعادة تنظيم كيفية استغلال هذه المعدات بما يضمن حق جميع الباحثين وتحييدها على كل أشكال التجاذبات . رغم أن هاته الإجراءات المقترحة لا تبدو كثيرة لكن أحسب والعلم لله أن النجاح في إحداث تغييرات جذرية على القانون الانتخابي و تكريس الشفافية وتعميمها على جميع الإدارات والمؤسسات في هاته الفترة الانتقالية إلى جانب ضمان التسيير اليومي والعادي للشأن الجامعي وإدارة العلاقة مع النقابات والمنظمات سيكون له الصدى الإيجابي . أما أن نربط تحسين جودة التكوين بضرورة تقييم الأستاذ من طرف الطلبة (كما وقع مناقشته في مجلس الجامعات الأخير كما صرح بذلك السيد الوزير) في واقعنا الجامعي الحالي والذي وصفناه ولم نوف لعمري هو ضرب من ضروب الهروب إلى الأمام ورفضا للمصارحة بالحقيقة أو عدم علم ودراية بأصل وجزئيات مرض هذا القطاع. مع احتراماتي لهم أقول للسادة أعضاء مجلس الجامعات وبالخصوص زملائنا رؤساء الجامعات صوبتم سهامكم خطأ للهدف الخطأ في تصور مبني على خطأ لواقع الجودة في التعليم العالي والبحث العلمي . كنت أتمنى أن نسمع منكم أن تقولوا نحن سنبدأ بأنفسنا في تحمل جزء هام من مسؤولية الفشل في الارتقاء بجودة التكوين والبحث طيلة سنتين ونصف. أم أنكم تصورتم أننا اقتنعنا بأن الفشل في إحداث ولو تغيير بسيط على واقعنا الجامعي يتحمله الوزير السابق لوحده وبأنكم وجدتم كبش فداء "لتمسحوا" فيه كل إخفاقاتكم المشتركة ثم تبحثون على رمي "الكرة" في ملعب الأساتذة لحجب الأنظار عن دوركم ومسؤوليتكم فيما آل إليه حالنا. ألا نعرف أنكم كنتم وما زلتم أعضاء بمجلس تقريري يعني أنكم كنتم جزءا من القرار؟ أليس أنتم من انتخبناهم ويحق لنا محاسبتكم ولو في وسط الطريق في انتظار المحاسبة عند نهاية المدة النيابية. أليس من حقنا أن نقلق على مصير قطاعنا في ظل مجلس جامعات له تصورات بعيدة على واقع الحال في معالجة أكبر مشكل وهو جودة التكوين والبحث. ألستم على وعي أنكم تستنسخون بمقترحاتكم الغير واقعية هذه التجربة والسياسة الفاشلة لوزراء عهد المخلوع. أليس فيكم من واكب (ومن موقعه النقابي) في 2009 فشل تمرير مقترح ربط تحسين الجودة بإقحام الطالب في تقييم أداء الأستاذ. ويبقى الأمل والحلم في تغيير حقيقي قائما ما بقي حبنا لتونس ولأجيالها.