مثلت زيارة ” الداعية ” وجدي غنيم زوبعة الأسبوع المنصرم في مشهد إعلامي وسياسي يقتات بشهية مفتوحة من “مخزون ” الضجة وإغراءاتها . و نستثمر سريعا لحظة الهدوء ” المؤقت ” للزوبعة الماضية لإبداء بعض ملاحظات هادئة قبل أن يغمرنا صراخ الزوبعة الموالية = 1/ أتفهم تماما حقيقة الوضع الانتقالي بعد الثورة و الانتخابات باعتباره وضعا تتغالب فيه قوى سياسية مختلفة تستثمر بلا هوادة كل المواضيع قبل أن تتوضح موازين القوة في صراع سياسي وفكري حقيقي يلتزم بقواعد اللعبة كما هو الأمر في ” الديمقراطيات المستقرة “. هذا التفهم لا يبرر أن تتحول بعض المواضيع الحساسة المتعلقة بالمشروع المجتمعي المنشود كقضايا العقيدة و الحداثة و الحريات إلى “ملطشة” يتداول نقاشها أشباه الصحفيين على شاشات و صفحات الإعلام ” الهاوي البليد ” . ويحسمها ببساطة بعض ” النشطاء ” السياسيين و الجمعياتيين و أنصاف الشيوخ ممن أخرجهم إلينا “المطر الأخير للثورة ” على الرصيفين العلماني أو المتدين . لقد أثبتت زوبعة الأسبوع الفارط حاجة المشهد الفكري و السياسي إلى أهله الحقيقيين من العلماء و المفكرين و مهنيي الإعلام الراقي و الساسة الفعليين ممن ضاعت أصواتهم في صخب السوق الحرة للثورة الكريمة و المتسامحة. 2/ بينت “عركة ” وجدي غنيم ما سبق أن نبهنا إليه في مقالات سابقة من أن الفرز السياسي في تونس والعالم العربي الثائر سيتم أساسا على قاعدة “السؤال الثقافي ” بامتياز ..الهوية و الحداثة ؟..الإسلام و الديمقراطية ؟ الدين و الدولة و المجتمع ؟ الحرية و المعتقد ؟..الأصالة و المعاصرة ؟..العقل و النقل ؟..الاستقلال و التبعية ؟..الخ الخ...لن يفعل الاخلاف غير استعادة أسئلة الأسلاف منذ صدمة “نابليون “.. قدرنا في عصر ثورة الحرية و الكرامة هو استعادة سؤال الإصلاح و النهضة منذ الأفغاني وعبده و الطهطاوي و الكواكبي و الحداد وصولا إلى حنفي و أركون و الجابري و أبي يعرب و الغنوشي و غيرهم ممن قضى نحبه أو ينتظر . من المحزن حقا أن يفسد علينا “غباء ” الإعلام البائس و ضجيج ” المتشددين ” و سطحية ” اللائكيين الهواة ” متعة الاستماع إلى التدخلات الرشيقة النادرة لحوزة الفكر الإسلامي أو العلماني التي أصمتها صراخ ” البسطاء ” على الجانبين . 3/ اكتشفت بمعايناتي التي لا ادعي بلوغها مرتبة الاستقصاء العلمي أن عنتريات ” السطحيين ” من أدعياء العقل و الحداثة لم تمنع امتلاء قبة المنزه و المساجد بجموع “ناس” أقبلت على محاضرات ” الداعية ” بشغف غريب و لا يخرج الأمر في تقديري عن واحد من التفسيرات التالية = ا)الفشل الذريع لإعلام فقد مصداقيته مما يجعل إصرار بعض الفرقاء على استثمار حظوتهم لديه حمقا مزمنا يحتاج إلى دواء حقيقي ب)ضعف القدرات الاتصالية و ترهل المصداقية الرمزية للناطقين باسم ” العقل الفعال ” و انهيار أسلوب التوظيف البائس لبعض المشاكل في مناكفة الحكومة بداية من إشكالية “برنوس الرئيس المؤقت ” و تساقط الثلوج في عين دراهم وصولا إلى خطر ختان النساء في عصر الأحوال الشخصية . ج)حجم التوجس الشعبي من الطرح المبسط للمسالة الدينية بعد عقود خمسة من ” بركات الدولة البورقيبية ” الأصلية و المعدلة أو الموعودة . أصبح المزاج الشعبي العام خائفا من تدخل ” السياسيين ” و ” المدنيين ” و أصحاب ” الياقات البيضاء ” في شؤون عقيدته و أصبح طيف واسع من بعض الشباب بعد الثورة مجبولا على الإفراط ” في “حريته الدينية ” ومعاندة ” العقلاء المدنيين ” حتى وان صرحوا بأنهم مسلمون لا يستهدفون دينه .مازال الجرح ” البورقيبي ” و “النوفمبري ” نازفا في المسالة الدينية . الم يخضع بورقيبة الدين باسم الحداثة ؟الم يطرد المجاهد الأكبر شيوخ الزيتونة ليستولي على حق تأويل الدين و يختزل في شخصه ” الزعامة و الإمامة ” على رأي صديقنا لطفي حجي ؟الم يتحول إصلاحه الديني إلى استهزاء بالعبادات و تضييق عليها ؟الم يحول “بن علي” صراعه مع خصومه الإسلاميين إلى عملية استئصالية حولت المساجد إلى “كنائس ” تفتح بجداول الأوقات و يدخلها المصلون بعد أن ترسم أسماؤهم على كنشات المخبرين ؟ الم يتحول صراع المخلوع مع خصومه إلى تصحير مشهد ديني و تربوي باسم تجفيف المنابع فسكت علماء الدين الحقيقيين ليتولى أمره “موظفون”لا يقنعون أحدا فتسرب خطاب الفضائيات الدينية المتشددة ؟ انه عناد المجروحين الخائفين يا مولاي تتحول عناوينه من “وجدي غنيم ” أو “عمرو خالد ” إلى طاقية الهنود أو جلباب الباكستانيين ولن يتوقف هذا العناد حتى يفسح المجال في هذه الأرض إلى “وجديها” و “خالدها ” إذا سمح بذلك إعلام مكابر . د/ الحداثة و العلمانية و فصل الدين عن السياسة و حرية المعتقد وغيرها من مفاهيم المدنية المعاصرة ستظل مربكة لن يفلح في الدفاع عنها وجوه و أقلام لم تستطع أن تقنع أو تقتنع بتصور آخر للعلمانية خارج تجربة الصراع الفرنسي المرير بين الكنيسة والحداثة ...لن تقنع هذه الوجوه و الأقلام بمشاريعها الثقافية مادامت مصرة على اتهام شعب حديث في غالبيته بأنه كان غبيا محافظا تورط في انتخاب ” حركة رجعية ” تحكمه الآن بمعية حزبين تابعين لا علاقة لهما بحداثة لا ينطق بها إلا ” اكليريوس ” المعارضة الخاسرة ..لن تقنع هذه الوجوه و الأقلام ما دامت لا تفعل غير ترصد زلات اللسان لتثبت ” قدامة ” الخصم وتصم ” اوذانها ” عن الحداثة الحقوقية المؤصلة في تصريحات رئيس الجمهورية المؤقت وقرارات وزير الثقافة المؤقت و لا تعير اهتماما لاجتهادات ” إسلاميين مؤقتين ” يصرون على مشاركة ” أنبياء الحداثة ” الأزليين في صناعة حداثة ممكنة أخرى ...لن تقنع هذه الوجوه و الأقلام ما دامت لا ترى المؤامرات الخارجية إلا في مظاهر ” تدين اقلي متشدد ” و تغمض عيونها اليقظة عن مؤامرات خارجية أخرى قد تختفي في جلباب بعض ” معارك التنبير السياسي ” وبعض إعلام الإثارة المفسد للحرية و التقدم الثوري .. 4/ و أخيرا هل تكون “عركة ” وجدي غنيم بأرباحها و خسائرها إيذانا بنهاية صراع ” القصوويات ” بألوانها المختلفة لينفتح الجدل في بلادي على حوار الوسطيات المنتجة ؟ ننتظر ونرى ...و إلى ملاحظات “عركة ” قادمة ...