رغم منعه من السفر : مبروك كرشيد يغادر تونس!    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    طقس اليوم: أمطار في هذه المناطق وانخفاض في درجات الحرارة    مدنين: حجز 4700 حبة دواء مخدر وسط الكثبان الرملية    مهرجان هوليوود للفيلم العربي: الفيلم التونسي 'إلى ابني' لظافر العابدين يتوج بجائزتين    اتحاد الشغل بجبنيانة والعامرة يهدد بالإضراب العام    نقل مغني فرنسي شهير إلى المستشفى بعد إصابته بطلق ناري    الأمم المتحدة: آسيا أكثر مناطق العالم تضرراً من كوارث المناخ ب2023    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    أراوخو يكشف عن آخر تطورات أزمته مع غوندوغان    الجزائر.. القضاء على إره.ابي واسترجاع سلاح من نوع "كلاشنكوف"    البطولة الأفريقية للأندية الحائزة على الكأس في كرة اليد.. الترجي يفوز على شبيبة الأبيار الجزائري    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    البنك التونسي السعودي ... الترفيع في رأس المال ب100 مليون دينار    في اختتام المهرجان الدولي «إيتيكات» بسوسة.. شعراء وفنانون عرب بصوت واحد: «صامدون حتى النصر»    هذه أبرز مخرجات الاجتماع التشاوري الأول بين رؤساء تونس والجزائر وليبيا    تغييرات مرتقبة في التركيبة العمرية    بيان أشغال الاجتماع التشاوري الأوّل بين تونس والجزائر وليبيا    مذكّرات سياسي في «الشروق» (1)...وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم .. الخارجية التونسية... لا شرقية ولا غربية    المنستير.. الاحتفاظ بمدير مدرسة إعدادية وفتح بحث ضده بشبهة التحرش الجنسي    بوعرقوب.. عصابة سرقة الاسلاك النحاسية في قبضة الحرس الوطني    بنزرت: غلق حركة المرور بالجسر المتحرك في الساعات الأولى من يوم الثلاثاء    الحشاني يشرف على جلسة عمل وزارية بخصوص مشروع بطاقة التعريف وجواز السفر البيومتريين    الإعلان عن تأسيس المجمع المهني للصناعة السينمائية لمنظمة الأعراف "كونكت"    بداية من يوم غد: أمطار غزيرة وانخفاض في درجات الحرارة    بوعرقوب: القبض على 4 أشخاص كانوا بصدد سرقة أسلاك نحاسية خاصة بشركة عمومية    مدنين: العثور على 4700 حبّة مخدّرة وسط الكثبان الرملية بالصحراء    استلام مشروع تركيز شبكة السوائل الطبية لوحدة العناية المركزة بقسم الأمراض الصدرية بالمستشفى الجامعي الهادي شاكر    قفصة: الإطاحة بشخص محل 10 مناشير تفتيش    عطلة طارئة في ليبيا تحسّبا لمنخفض جوي مرتقب    تونس: وفاة 4 أطفال بسبب عدم توفّر الحليب الخاص بهم    وزير الشؤون الاجتماعية يُعلن عن بعث إقليم طبي بالقصرين ..التفاصيل    تحذير هام/ بيض مهرّب من الجزائر يحمل هذا المرض!!    الكاف: تقدم مشروع بناء سد ملاق العلوي بنسبة 84 %    بن عروس: توجيه 6 تنابيه لمخابز بسبب اخلالات تتعلق بشروط حفظ الصحة    باجة: انطلاق الاستعدادات لموسم الحصاد وسط توقعات بإنتاج متوسط نتيجة تضرّر 35 بالمائة من مساحات الحبوب بالجهة    وصول محمد الكوكي الى تونس فهل يكون المدرب الجديد للسي اس اس    غوارديولا : لاعبو سيتي يعدون أنفسهم للمهام المقبلة    تقرير: شروط المؤسسات المالية الدولية تقوض أنظمة الأمان الاجتماعي    بعد ترشّحها لانتخابات جامعة كرة القدم: انهاء مهام رئيسة الرابطة النسائية لكرة اليد    دورة مدريد للتنس : انس جابر تفتتح مشاركتها بملاقاة الامريكية كينين او السلوفاكية سمليدوفا في الدور الثاني    حليب أطفال متّهم بتدمير صحة الأطفال في الدول الفقيرة    تكريم هند صبري في مهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة    عرض فرجوي بإعدادية القلعة الخصبة دعما للقضية الفلسطينية    ائتلاف صمود يدعو الى إطلاق سراح السياسيين المترشحين للرئاسية..    بغرض تهريبه: حجز كمية من مادة المرجان مخفية بأحد المنازل..!!    الرابطة الأولى: تعيينات منافسات الجولة الخامسة لمرحلة التتويج    رئيس غرفة القصّابين عن أسعار علّوش العيد: ''600 دينار تجيب دندونة مش علّوش''    وزارة الدفاع الوطني تعرض أحدث إصداراتها في مجال التراث العسكري بمعرض تونس الدولي للكتاب    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس    هاليب تنسحب من بطولة مدريد المفتوحة للتنس    حريق بمحل لبيع البنزين المهرب بقفصة..وهذه التفاصيل..    لأقصى استفادة.. أفضل وقت لتناول الفيتامينات خلال اليوم    في سابقة غريبة: رصد حالة إصابة بكورونا استمرت 613 يوماً..!    أولا وأخيرا..الكل ضد الكل    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة سيدنا يوسف في القرآن الكريم
نشر في صحفيو صفاقس يوم 30 - 06 - 2015

تُعدُّ قصة يوسف في القرآن الكريم نموذجاً من قصص المرسلين. فيها عبرة لمن يعقل، وفيها تصديق ما جاءت به الكتب المنزلة من قبل. وقد وردت القصة في القرآن الكريم في سورة كاملة، وذُكر اسم يوسف عليه السلام في القرآن الكريم ستاً وعشرين مرة، منها أربعاً وعشرين في سورة يوسف.
وكان نزول هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم قبل هجرته من مكة إلى المدينة. قال النسفي: "إن كفار مكة لقي بعضهم اليهود، وتباحثوا في ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فقال لهم اليهود: سلوه لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وقد جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله) رواه البخاري.
حاصل القصة
كان ل يوسف عليه السلام أحد عشر أخاً، وكان أبوه يحبه كثيراً. وذات ليلة رأى يوسف في منامه أحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين. فقص على والده رؤياه، فنصحه بألا يقص الرؤيا على إخوته؛ مخافة أن يحسدوه. وسوس الشيطان لإخوته، فاتفقوا على أن يلقوه في بئر عميق. وادعوا أن الذئب أكله. وجده ناس من التجار، فأخذوه وباعوه بثمن بخس، واشتراه ملك مصر، وطلب من زوجته أن ترعاه. وكبر يوسف . أخذت امرأة العزيز تراوده عن نفسه، فأبى فكادت له، ودخل السجن. ثم أظهر الله براءته، وخرج من السجن بعد ذلك، واستعمله الملك على اقتصاد مصر، حيث أحسن إدارته في سنوات القحط. ثم اجتمع شمله مع إخوته ووالديه وتحققت رؤياه.
تفاصيل القصة
كان يوسف يحظى بحب كبير من أبيه يعقوب، وقد لاحظ إخوته مكانة يوسف عند أبيه، فجعلت الغيرة تعتصر قلوبهم، والحسد يكشر عن أنيابه! تبدأ القصة بإخبار يوسف والده أنه رأى في المنام أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدون له، فطلب يعقوب من ولده ألا يقص رؤياه على إخوته؛ إذ إن ذلك سيجعلهم يزدادون حسداً له، وحقداً عليه، وغيرة منه. بيد أن خبر الرؤيا وصل إلى هؤلاء الأخوة الحساد، فخلا بعضهم، وتناقشوا فيما بينهم فيما هم فاعلون، وأجمعوا أمرهم على أن يأخذوا يوسف ويلقوه في بئر عميق؛ ليطفئوا نار الغيرة التي تشتعل في صدروهم.
وبعد أخذ ورد مع والدهم، وافق الوالد الحنون على إرسال يوسف مع إخوته لقضاء بعض الوقت في اللعب واللهو. وبالفعل خرج الإخوة ب يوسف إلى مكان بعيد، وقد عقدوا العزم على تنفيذ خطتهم، ثم وصلوا إلى مكان فيه بئر عميق، فألقوا فيه أخاهم من غير شفقة ولا رحمة، ثم عادوا أدراجهم، وقد حملوا قميص يوسف معهم، ولوثوه ببعض الدماء؛ ليخفوا حقيقة ما جرى، ويدعوا أن ذئباً ضارياً شارداً هاجم أخاهم على حين غفلة منهم، فأكله! وما أن سمع يعقوب بالقصة حتى شعر أن ثمة أمراً قد دُبِّر، ولكن ماذا عساه أن يفعل، والأدلة بين يديه لا تقوى على إدانة مرتكب الجريمة. فسلَّم أمره إلى الله، طالباً منه الصبر على هذا المصاب الجلل.
ثم ينتقل المشهد القرآني ليخبرنا عن يوسف وقد أصبح في أسفل البئر، وبينما هو على هذه الحالة، إذ بقافلة من قوافل التجار تمر من هنا، ثم تنزل قرب البئر قاصدة الاستراحة والتزود بالماء والطعام، وما إن يلقي بعض رجال القافلة حبل السقاية في البئر طلباً للماء، حتى يتبين لهم أن ثمة غلاماً في البئر، فيفرح بذلك فرحاً شديداً، ويخبر رفاقه بهذا البضاعة التي كسبها من غير تقدير ولا تدبير. ثم إن تجار القافلة يستقر رأيهم على بيع ما وجدوه، ومن ثم يعرضونه للبيع لبعض المارة، فيشتريه بثمن زهيد! ويبدو أن الذي اشتراه كان صاحب جاه ومنصب ومكانة، وكان قبل ذلك صاحب توفيق؛ إذ أن شراءه لهذا الغلام سوف يجلب له الخير في قابل الأيام.
واستقر المُقَام ب يوسف في بيت عزيز مصر، وفي هذا البيت الرفيع كانت ل يوسف قصة، وأي قصة! تقول القصة: إن زوجة العزيز قد فُتنت بجمال يوسف، فطلبت منه -بعد مقدمات وممهدات- فعل الفاحشة معها! ويا لهول هذا الطلب! كان رد يوسف على طلبها بالرفض القاطع، وطلب الإعانة من الله للخلاص من هذه الفتنة التي حلت به من غير سابق إنذار. بيد أن المرأة المفتونة -وقد انسلخت من حيائها تماماً، وانساقت وراء شهوتها- أصرت على يوسف أن يفعل الفاحشة معها، وفي تلك الأثناء -والحال بين شد وجذب، وطلب ورفض- إذا بالباب يُفتح، وخلفه العزيز، وإذا بالثلاثة وجهاً لوجه: يوسف يسعى ويركض نحو الباب للتخلص من براثن الفتنة، والزوجة لاهثة وراء قضاء شهوتها، والزوج يريد أن يعرف ماذا يجري داخل قصره!؟
ورغم هذا الموقف الحرج، فقد بادرت الزوجة بتوجيه التهمة إلى النزيل الجديد في القصر، وطلبت من زوجها أن يودع هذا النزيل السجن، أو ينزل به اشد العقاب؛ جراء محاولته تدنيس عرض سيد القصر، وعزيز مصر- بزعمها ! وأمام هذا الاتهام الصريح من المرأة ليوسف، مع أنها رأس هذه الفتنة، لم يجد يوسف بداً من الدفاع عن نفسه بالحق، وقد دافعت هي عن نفسها بالباطل.
ومن أجل أن يعرف العزيز حقيقة ما جرى، طلب من بعض أعوانه، أن يتبين من أي جهة تمزق قميص يوسف، وبعد التحري والتحقق تبين أن قميص يوسف قد تمزق من الخلف، ما يعني أنه كان بصدد الفرار من الفتنة، إلا أن الفتنة لاحقته، وأمسكت بقميصه ما أدى إلى تمزيقه، فكان هذا دليلاً كافياً على براءة يوسف من هذه الفتنة التي كيدت له.
ثم إن امرأة العزيز تصبح هي وفعلتها حديث الطبقة العليا من نساء مجتمعها. وتسمع المرأة بما يدور على ألسنة النساء من هنا وهناك…إنه حديث يدور هامساً خافتاً…وإذن، فلتتدبر الأمر قبل أن يستفحل، ولتعمل بكل ما تملك من حول وطول لإطفاء نيران هذه الفتنة التي أخذ شررها يتطاير في كل مكان، وهي زوجة سيد مصر!
وكان من تدبيرها وحيلتها، أن دعت النساء إلى حفلة ذات طعام وشراب، وقدمت لهن ما لذَّ وطاب، وكان من جملة ما قدمت لهن فاكهة تسر الناظرين، وقدمت مع كل طبق فاكهة سكيناً لقطعها على عادة كبراء القوم، وفي أثناء انشغال النسوة بتقطيع ما بين أيديهن من فاكهة، طلبت المرأة من يوسف الدخول على تلك النسوة، فما أن رأين يوسف حتى بهرن بجماله، ولم يشعرن إلا وهن يقطعن أصابعهن بالسكاكين …وإذا بامرأة العزيز تبوح بمكنون صدرها ولواعج قلبها، وتهدد يوسف وتتوعده، بأنه إذا لم يفعل الفاحشة معها، فإن مصيره إلى السجن؛ ليذوق وبال صده، وينال عاقبة امتناعه، وليكون ذليلاً صاغراً.
ولا يجد يوسف أمام هذا السلطان القاهر المتحدي إلا أن يفزع إلى ربه، متضرعاً إليه؛ أن يصرف عنه السوء الذي أحاط به، ويبعد عنه شبح الفتنة التي تحاصره من كل جانب. وقد استجاب الله دعاء يوسف، فصرف عنه كيد تلك المرأة ومن ناصرها من بنات قومها. ثم آل به إلى الأمر أن يدخل السجن، وليكون له فيه أيضاً قصة أخرى.
دخل يوسف السجن -على ما فيه- مُؤْثِراً إياه على فعل ما لا يرضي الله سبحانه، وكان السجن هو الحصن الذي احتمى فيه يوسف من الفتنة ودواعيها، ثم كان فيه ما كان. كان هذا السجن -وكل محنة تحمل في طياتها منحة- هو الطريق الذي سلك ب يوسف إلى المُلك، الذي أراد الله سبحانه أن يضعه بين يديه، وأن يجعله خاتمة لهذه الرحلة الشاقة على أشواك الابتلاء.
يقيم يوسف في السجن مع رفاق سجنه، وسرعان ما يكسب حب رفقائه له، وينال ثقتهم؛ بما تجلى لهم من سمو أخلاقه، وعلو نفسه، وسداد رأيه، ونفاذ بصيرته. ثم ها هو ذا يصبح المرجع في تفسير الأحلام التي يراها أهل السجن -وما أكثر ما يرى السجناء من أحلام- وذات يوم يسأله شابان من رفاق السجن عن رؤيا رأياها…كان أحدهما قد رأى في المنام أنه يعصر عنباً، ليصنع منه خمراً، وأما الآخر فكان قد رأى أنه يحمل خبزاً فوق رأسه، والطير تأكل منه. فوجد يوسف من حسن ظنهما فيه مُنْطَلَقاً إلى أمر هو أعظم وأنفع لهما من تأويل رؤياهما، وهو دعوتهما إلى الله الواحد القهار. فبدأ يبين لهما وحدانية الله، وأنه سبحانه هو الإله الذي يستحق العبادة دون سواه من الآلهة، التي لا تملك من أمرها شيئاً.
وبعد أن أوصل يوسف رسالته الدعوية لهذين الشابين، أخذ في تأويل رؤيا كل واحد منهما، فأخبر الأول أنه سوف يسقي الخمر لسيده، وأخبر الثاني أنه سوف يصلب، والطير تأكل من رأسه. وأنهى تأويله لهما بقوله: إن كلا الأمرين قضاء من الله حاصل، لا مرد له ولا دافع.
ثم أقبل يوسف على الشاب الذي توقع له النجاة، وطلب منه أن يلتمس له من سيده -عزيز مصر- فك أسره، وإطلاق سراحه. ثم يخرج الشاب من سجنه، وينشغل بأمور حياته، ويقابل سيده، ويقدم له الخمر، إلا أنه ينسى أن يبلغه رسالة يوسف التي حمَّله إياه إليه.
وكان من أمر ملك مصر أن رأى رؤيا شغلت باله، وأقضت عليه مضجعه، ولم يجد بين صفوف حاشيته من يؤولها له. وبينما الحال كذلك، إذا بصاحب يوسف الذي نجا من السجن يتذكر يوسف، فينطلق إليه مسرعاً، ويسأل يوسف عن تأويل رؤيا الملك، ثم يعود إلى الملك كالسهم، ويلقي بين يديه تأويل ما رآه، ويقع ذلك التأويل من الملك موقعاً حسناً، وعندها يهتف الملك بمن حوله طالباً منهم إحضار يوسف؛ ليكون إلى جانبه مستشاراً، ومعاوناً له في إدارة شؤون مصر.
بَيْد أن يوسف يأبى أن يستجيب لدعوة الملك، ولم تشغله فرحة الخروج من هذا القبر، الذي أطبق عليه تلك السنين الطويلة…عن أن يطلب التحقيق في أمر سجنه. ومن ثم يطلب من الملك أن يحقق في هذا الأمر؛ ليعيد له الاعتبار، ويُعْرَفُ صاحب الحق من الباطل.
وها هن النسوة يمثلن في مجلس الملك؛ لكشف النقاب عن ملابسات اعتقال يوسف، ويسألهن الملك عن هذا الحدث الذي كان بينهن وبين زوجته…ولا يسع الزوجة إزاء هذا الموقف إلا الاعتراف بحقيقة ما جرى، ومن ثم تخبر زوجها أنها هي التي طلبت من يوسف فعل الفاحشة معها! وقابل طلبها بالرفض والامتناع.
وتشتد رغبة الملك -وقد قامت الأدلة على براءة يوسف وعفته ومروءته- في لقاء يوسف، ويقع من نفسه موقعاً متمكناً؛ إذ رأى فيه الرجل الذي يجد عنده سداد الرأي، وصدق النصح، وحسن التدبير ما يقيم ملكه على دعائم قوية. وهكذا كان يوسف إلى جانب الملك يشرف له على موارد الدولة الاقتصادية، ويدبر له صادرها وواردها.
مضى الزمان يطوي الليالي والأيام، و يوسف يدير اقتصاد مصر ويدبره، ووقعت مجاعة في أرض كنعان التي كان يعيش فيها يعقوب وأبناؤه. وكانت مصر بفضل تدبير يوسف قد أعدت لهذا الأمر عدته؛ فادخرت كثيراً مما زرعت وحصدت، وبهذا أصبحت مصر في تلك الأيام المجدبة محط رحال الوافدين إليها، يطلبون الزاد والغذاء.
وقصد إخوة يوسف مصر طلباً للتزود بالطعام، وشاءت الأقدار أن يجتمعوا بأخيهم يوسف من غير أن يعرفوه، بيد أنهم أخبروه أنهم أولاد يعقوب. ومنذ اللحظة التي رأى فيها يوسف إخوته، أخذ يدبر أمراً بينه وبينهم. وها هم أولاء يطلبون منه التزود بالطعام، وها هو ذا يرفض تزويدهم بالطعام إلا بعد أن يأتوا بأخ لهم من أبيهم؛ ليكون ذلك دليلاً على صدقهم فيما قالوه من أنهم أبناء يعقوب.
ويعود الأبناء إلى أبيهم، وما يكادون يلتقون به حتى يخبروه بأنهم منعوا من التزود بالطعام إلى أن يأتوا بأخ لهم..ولم يجد يعقوب بداً من التسليم بالأمر الواقع، فسمح لهم باصطحاب أخيهم معهم، وأخذ عليهم عهداً بأن يأتوه به، ولا يضيعوه كما ضيعوا أخاهم من قبل! وقبل أن تتجه القافلة تلقاء مصر ثانية، نصحهم أبوهم ألا يدخلوا مصر من باب واحد، بل يدخلوها من عدة أبواب؛ مخافة أن يحسدهم الناس؛ إذ كانوا على درجة من الجمال.
ويصل الركب ثانية إلى مصر، ويلتقي يوسف بأخيه، ويخلو به، ويضمه إليه، ويخبره أنه أخوه. وكان يوسف قد دبَّر حيلة لإبقاء أخيه إلى جانبه، فأمر بعض أعوانه أن يضع مكيال الطعام ضمن أمتعة أخيهم من غير أن يشعر أحد منهم بذلك، وسار الأمر وفق ما خُطط له، وقبل أن تنطلق القافلة برحلة العودة، إذا بمنادي الملك يخبر القافلة بأن مكيالاً قد سُرِق، وأنه لن يُسمح بالمغادرة للقافلة إلا بعد أن يتم تفتيش متاع القافلة، ومعرفة السارق.
وبدأت عملية تفتيش الأمتعة، ثم استخراج المكيال المسروق من متاع الأخ، وما أن رأى إخوة يوسف استخراج المكيال من متاعه حتى أُسقط في أيديهم، ورجوا يوسف أن يأخذ أي واحد منهم، ويطلق سراح أخيهم؛ لأن أباه لا يتحمل فقده. وجاء الجواب بالرفض القاطع.
وعاد الركب بالطعام وتركوا خلفهم أخاهم، وهم حائرون في أمرهم، كيف سيكون موقفهم من أبيهم؟ وماذا سيقولون له؟ وهل سيصدقهم هذه المرة ؟
علم يعقوب بما حدث، ولم يجد أمامه إلا الصبر على هذا المكروه، والاستسلام لأمر الله، والرجاء في رحمته وإحسانه. لقد نكأ هذا الجرح الجديد جرحاً قديماً، كان غائراً في أعماق نفسه بسبب فَقْدِه ليوسف، وها هو اليوم يفيد ابنه الثاني.
ويمضي يعقوب في موقفه هذا مع ربه، وشكاته إليه، والوقوف بباب فضله، غير يائس أبداً من فضله سبحانه، ثم يتوجه إلى بنيه طالباً منهم البحث عن يوسف وأخيه، وحاثاً إياهم على عدم اليأس من فضل الله ورحمته، فلم يسعِ الأبناء إلا الاستجابة لطلب أبيهم، فأعدوا العدة، ويمموا وجههم ثالثة إلى مصر للبحث عن يوسف وأخيه.
وها هم الإخوة بين يدي يوسف، يرجونه ثانية أن يطلق سراح أخيهم…فيرى يوسف ما أصاب أهله من ضرٍّ، وما حلَّ بهم من ضيق، فيرق لحالهم، ثم يسألهم سؤال المعاتب: هل علمتم ما فعلتم ب يوسف عندما كان صغيراً؟ فيتعجب الإخوة من هذا السؤال، ويستفسرون منه إن كان هو نفسه يوسف، فيأتي الجواب بالإيجاب. وهنا يشعر الإخوة بالندم على ما كان منهم، وأنهم كانوا على طريق ضال في الكيد الذي كادوه له.
ويطوي يوسف سريعاً صفحة الماضي الأسود، ويغطي على كل آثارها بالصفح الجميل، وطلب المغفرة على ما كان منهم. ثم يطلب يوسف من إخوته أن يحملوا قميصه، ويلقوه على وجه أبيهم؛ كي يرتد إليه بصره. وينطلق الركب فرحين بما يحملونه من أخبار سارة يبثونها إلى أبيهم. وما أن يشارفوا على الوصول حتى يخبر يعقوب أنه يجد ريح يوسف ، ويدخل الأبناء على أبيهم، ويلقوا القميص على وجهه، فيعود إليه بصره بإذن الله. ثم يخبروه بما جرى بينهم وبين أخيهم يوسف، ويطلبون منهم المسير معهم إليه ليلتئم شمل الأسرة.
ويصل يعقوب وأبناؤه إلى مصر، ويدخلون على يوسف، وما أن يرى يوسف أباه بعد هذا الفراق الطويل حتى يقبِّله، ويرفعه على المكان المخصص لجلوسه احتفاء به، ثم يتوجه مناجياً ربه، بالشكر والحمد له على ما أنعم عليه من نِعَم، وما أفاض عليه من عطاء، طالباً منه أن يتوفاه على دين الإسلام، وأن يلحقه بعباد الله الصالحين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.