“بسم الله الرحمان الرحيم السادة والسيدات أعضاء المجلس الأعلى للقضاء يسعدني أن أجدد لقائي بكم في هذا الاجتماع الدوري للمجلس الأعلى للقضاء تأكيدا لما نوليه للقضاء من مكانة متميزة اعتبارا لنبل رسالته ولدوره في إقامة العدل بين المواطنين وحماية حقوقهم وضمان حرياتهم. وأعبر بهذه المناسبة عن شكري وتقديري لأعضاء الأسرة القضائية الموسعة من قضاة ومحامين وإطارات وكتبة محاكم وإطارات وأعوان السجون والإصلاح وعدول التنفيذ وعدول الإشهاد وسائر مساعدي القضاء للدور الذي يضطلعون به لإيصال الحقوق إلى أصحابها في أفضل الظروف وبأيسر السبل ولحرصهم على حسن تطبيق القانون على أساس المساواة بين المواطنين كما نص على ذلك الدستور. وإذ أسجل بارتياح ما أبرزته المؤشرات المتعلقة بنشاط المحاكم خلال السنة القضائية الحالية من تطور في نسق فصل القضايا ومن حرص على تحديث أساليب العمل فإني أدعو السادة القضاة إلى بذل المزيد من الجهد في المجال لدعم القضاء العادل والناجز الذي يواكب المستجدات والتقنيات الحديثة ويذكي روح الاجتهاد التي عرفت بها على الدوام المدرسة القضائية والقانونية التونسية. ويتزامن انعقاد المجلس الأعلى للقضاء مع احتفالاتنا الوطنية هذه السنة بالذكرى الخمسين لإصدار الدستور الذي شكل علامة مضيئة في تاريخ تونس المعاصر باعتباره رمز السيادة الوطنية وخلاصة ما استقر عليه نضال الشعب التونسي واختياراته. وإذ نكبر الدور المحمود الذي يضطلع به القضاة لتعزيز أركان النظام الجمهوري فإننا نكبر أيضا حرصهم الدؤوب على مواكبة مسيرة التطوير والتحديث وإثراء فقه القضاء والتعريف برصيدنا التشريعي في المحافل الوطنية والدولية. وقد جعلنا من تأمين حريات الأفراد وضمان حقوقهم خيارا جوهريا دائما في سياستنا. وبادرنا هذه السنة بإصدار قانون يوفر مزيدا من الحماية لفائدة الأشخاص الموقوفين تحفظيا وينص على سحب الآجال المقررة قانونا للغرض على مرحلة التحقيق بدرجتيها ويترتب عن تجاوز هذه الآجال الإفراج حتما عن ذي الشبهة ومثوله أمام المحكمة بحالة سراح ضمانا لحريته الشخصية. ولما كانت الغاية الأساسية من التتبعات الجزائية هي توفير ظروف إعادة إدماج من زلت بهم القدم فقد وضع هذا القانون أيضا آليات تيسر إعادة الإدماج وتساعد على الحد من ظاهرة العود لا سيما من خلال التخلي عن التنصيص ضمن بطاقة السوابق العدلية على العقوبات المالية والبدنية للمحكوم عليهم لأول مرة في الجرائم غير الخطيرة وكذلك من خلال تيسير شروط استرداد الحقوق بالتخفيض في آجال فترة الاختبار التي تم النزول بها إلى النصف. ويقتضي التطبيق الناجع لهذه الإصلاحات الإسراع بإتمام المنظومة الإعلامية التي أذنا بها للحصول على بطاقة السوابق العدلية بصفة حينية بما يسهل على المواطن قضاء شؤونه المتصلة بها لا سيما فيما يتعلق بطلب الشغل ويجنب أيضا المحاكم تأجيل النظر في القضايا الجزائية في انتظار الحصول على هذه البطاقات. وتأكيدا لما نوليه من أهمية لحماية المعطيات الشخصية وتجسيما للنصوص التي أذنا بإصدارها في هذا المجال فإننا نبارك انطلاق النشاط الفعلي للهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية ونأمل في أن تسهم في تحقيق الأغراض التي بعثت من اجلها والمتمثلة أساسا في توفير المزيد من الضمانات لحماية الحياة الخاصة للأفراد ومعطياتهم الشخصية. وحرصا منا على مزيد الإحاطة بالأشخاص الحاملين لإعاقة عضوية فقد بادرنا هذه السنة بإصدار قانون يتعلق بتيسير التعامل مع هذه الفئة من المجتمع وتبسيط الإجراءات المقررة لها في ما يتعلق بمحتوى العقود والتعريف بإمضاء المتعاقدين وذلك دون إخلال بمقتضيات الحماية القانونية المستوجبة لجميع الأطراف المتعاقدة. لقد سعينا دوما إلى تطوير المنظومة القضائية في إطار مقاربة شاملة تقوم على تقريب القضاء من المتقاضين وتحسين ظروف العمل بالمحاكم ودعم حق التقاضي وتوفير الضمانات للمتقاضين. وعملنا في هذا السياق على إلغاء معاليم النشر والترافع تجسيما لمبدأ مجانية التقاضي. كما عملنا على تكريس مبدأ التقاضي على درجتين في المواد المدنية والجزائية وكذلك الإدارية. وتواصلا مع هذا التوجه تولينا في الأيام الأخيرة عرض مشروع قانون على السلطة التشريعية يقر حق الطعن بالاستئناف في أحكام التحيين الصادرة عن المحكمة العقارية لتوفير مزيد من الضمانات للمواطنين اعتبارا لما يقتضيه حق الملكية من حماية. كما سجلنا هذه السنة انطلاق نشاط ثلاث محاكم ابتدائية ثانية بكل من تونس وصفاقس وسوسة مما أسهم في تخفيف الأعباء عن المحاكم المتفرعة عنها وتحسين الخدمات المسداة للمواطنين. وفي إطار حرصنا على مزيد دعم هذا التوجه نأذن بان يتم الشروع ابتداءا من السنة القضائية المقبلة في تعميم إحداث الدوائر الجنائية الابتدائية بصفة تدريجية وحسب معايير مضبوطة وإحصائيات مدققة وذلك بكل المحاكم الابتدائية التي يبرر النشاط القضائي فيها مثل هذا الأحداث. وهكذا نكون قد وفرنا الإطار الملائم لمزيد تقريب القضاء من المواطن وتيسير اللجوء إلى المحاكم وهو ما يستدعي من القضاة مواصلة الحرص على حسم القضايا في أسرع وقت دون المساس بالضمانات الممنوحة لكل أطراف النزاع. ولا يخفي أن هناك العديد من القضايا التي يؤدى طول الحسم فيها إلى صعوبات في التنفيذ مما يحد أحيانا من مفعول الحكم في الواقع. فاللجوء إلى القضاء لا يهدف فقط إلى التصريح بالحق بل يهدف بالأساس إلى استرجاع المواطن لحقه أو مباشرته له بصفة فعلية وفي اجل معقول. حضرات السادة والسيدات إن التخصص في العمل القضائي يحقق إضافة نوعية لفائدة المتقاضين لا سيما بما أحدثناه في السنوات الأخيرة من خطط كقاضي الأسرة وقاضي الأطفال وقاضي الجباية وقاضي الشغل وقاضي الضمان الاجتماعي. وما شروع قضاة الائتمان والتصفية في مباشرة نشاطهم مع مستهل السنة القضائية المقبلة إلا حرص متواصل منا على إرساء قضاء متخصص في مجالات على غاية من الدقة والتشعب لعلاقاتها بإدارة الأملاك والشركات وتصفيتها وما يقتضيه ذلك من عناية متميزة ومراقبة دقيقة وخبرة ثابتة لتأمين حسن التصرف فيها تفاديا لإهدار حقوق مختلف الأطراف في عمليات ائتمان وتصفية غالبا ما تطول مدتها وتثقل تكلفتها ويتضرر منها جميع المستحقين. وحرصا منا على توفير أفضل ظروف العمل أمام القضاة فقد أذنا باتخاذ عديد المبادرات والإجراءات لتحسين أوضاعهم المادية والمعنوية والاجتماعية. ونوصي اليوم بعد أن تم الشروع خلال السنة القضائية الحالية في استغلال المقر الجديد لتعاونية القضاة بالإسراع بإتمام تهيئة نادي القضاة الذي أذنا برصد الاعتمادات اللازمة لانجازه ليصبح فضاء ملائما للقضاة وعائلاتهم طبقا لما يتطلبه ذلك من مراعاة للوظيفة القضائية وخصوصياتها. السادة والسيدات أعضاء المجلس الأعلى للقضاء أجدد لكم ولسائر أفراد الأسرة القضائية شكري وتقديري للأعمال القيمة التي تقومون بها وللجهود المحمودة التي تبذلونها في سبيل أداء رسالتكم النبيلة على أحسن وجه راجيا لكم جميعا مزيد النجاح والتوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.”