واصلت قناة حنبعل عبر برنامج «الرابعة» تفكيكها للسياسة الّتي تحتكمُ إليها قناة «الجزيرة القطريّة» في تعاملها مع مختلف القضايا والملفات العربية والدولية وأجمع المشاركون في حلقة «الرابعة» الّتي من المنتظر إعادة بثها اليوم السبت على الساعة العاشرة والنصف ليلا على أنّ هذه السياسة فيها الكثير من الالتباسات وهي في حاجة إلى مزيد التفكيك للوصول الى حقيقة التمويل الّذي تلقاهُ هذه القناة المثيرة للجدل منذ ظهورها وكذلك مدى حيادية واستقلاليّة العاملين فيها عن خط عام إعلامي يتماهى مع خيارات الدولة الراعية وعمق ارتباطاتها الإقليمية والدوليّة.. أكّدت الحلقة الجديدة من برنامج «الرابعة» حالة من الإجماع والتوافق لدى ضيوف الحلقة والمساهمين في تأثيث مختلف فقراتها، ومنهم من هو متمرّس في الشأن الإعلامي وصاحب خبرات طويلة في الميدان، على أنّ الارتباط الوثيق لقناة «الجزيرة» بالسياسات العامة للدولة القطرية أصبح من المسلّم به، وأنّ ذلك الارتباط يمنعُها من أن تلعب دورها الإعلامي بشكل مستقل ومُحايد ووفق ضوابط ومقتضيات المهنة. وفي هذا الصدد لم يعُد يخفى اليوم على أحد حالة التنافس الّذي دخلتها قوى اقليميّة ودولية عديدة من أجل افتكاك موطئ قدم لها في السياسات الّتي تحكم المناطق والأقاليم في العالم وتوجيه الأحداث والوقائع، واتّضح ومنذ فترة السعي القطري لاحتلال موقع ريادي في منطقة الشرق الأوسط ودول مجلس التعاون الخليجي لتوجيه الأحداث وإبراز المكانة والدور القطري: فهل كانت قناة الجزيرة السلاح الإعلامي الأقوى الّذي اعتمدتهُ القيادة القطرية للدفع بنفسها لأخذ نصيب من النفوذ وتسيير الشؤون العربيّة وغيرها من الشؤون؟ وربّما ومثلما كشف البعض من ضيوف حلقة برنامج «الرابعة» فرض رؤى وتصورات دولية جديدة على مستويات عدّة منها المرتبط بالفضاء الجيو-سياسي الاقليمي والدولي ومنها ما هو متّصل بمسائل ثقافيّة وفكريّة وإيديولوجيّة وحضارية. سلاح «فتّاك وهدّام وقاتل» يستبقُ درع ترسانة الأسلحة الأمريكيّة الموجودة على أراضيها. بحث عن الإثارة وتوجيه المتابعون لشأن «الجزيرة» أصبحوا اليوم يُقرّون بأنّ المبدأ الأساسي في الخط التحريري لهذه القناة هو البحث عن الإثارة ومواطن الفزع والحرب والصراع والفتنة أيّا كان موضعها، ولا يخفى في هذا الصدد التأكيد على أنّ تسميات عديدة وخاصة منها الاتجاه المعاكس والرأي والرأي الآخر ليست إلاّ تسميات لإطلاق الإثارة والتهريج وعدم إفادة المستمع والمشاهد بمضامين فكرية وسياسية هادفة: لماذا كلّ تلك المظاهر من الإثارة ؟ ألا تُوجد كفاءات وطاقات عربيّة قادرة على الحوار الهادئ والرصين والهادف؟ ألا توجد في الثقافة العربية والاسلاميّة والّتي ينحدرُ منها مموّلو ومنفذو برامج وسياسات «الجزيرة» مبادئ رصينة للمناظرة والجدل البناء؟ كم نحنُ في حاجة إلى أن تستثير فينا قناة «الجزيرة» كلّ تلك الأوجه الحواريّة النيّرة الّتي طبعت فترات هامّة من تاريخنا؟ ليتها تستحضرُ نباهة المتكلمين العرب والمسلمين ووجاهة الفلاسفة والمفكرين العرب الّذين كانوا يتجادلون بعمق فكري ثري جدّا ليس به إثارة أو تهريج، لماذا تُغيّب «الجزيرة» تلك الروح العقلانية العربية الموغلة في القدم لفائدة سلوكات حواريّة مُفزعة وهدّامة لروح التعايش والقبول بالفكر المضاد؟، ثمّ لماذا تصطنعُ برامج «الجزيرة» كلّ تلك الفزاعات من الاتهامات والتجريح والمساس بالذوات والأشخاص وهيبة الدول والمجتمعات ؟ لماذ يجري كلّ ذلك؟ أنا شخصيّا وعبر مُتابعات متواصلة لعدد من برامج «الجزيرة» الحوارية ترسّخت لديّ ما يُشبهُ القناعة بأنّ العرب والمسلمين ليسوا جديرين بفضاءات للحوار الدافئ والهادئ والمفيد بل إنّهم غير قادرين على التحكّم في السير الطبيعي لتلك الفضاءات عند الحصول عليها. دعّم برنامج «الرابعة» الإحساس بوجود خفايا تحرّك الخط الإعلامي للجزيرة، ليست قناة بريئة بل لها أجندة عمل واستراتيجية إعلاميّة واتصالية بعيدة عن المهنيّة والمصداقية والروح الإعلاميّة الرصينة. منذ فترة وأنا أطرح سؤالا على نفسي:أين الشأن القطري في برامج قناة «الجزيرة»؟ ولدي قناعة راسخة في هذا الصدد أنّ تقييم تطور أداء أيّ وسيلة إعلاميّة وفي أيّ دولة من العالم يرتبطُ أساسا بمدى القدرة على الولوج للشأن المحلي وطرق كل قضاياه ومشاغله بكامل الحريّة والمصداقية والنزاهة وليس الالتجاء إلى نقل أوضاع الآخرين وكشف سلبياتهم؟ الشأن المحلي وشؤون الآخرين إنّ التعرّض إلى شؤون الآخرين من أيسر السبل وأسهلها أمّا الولوج إلى عمق الشأن الداخلي والمحليّ فهو من الصعوبة بمكان: وفي هذا المحلي والداخلي القريب وهو أساس العمل الإعلامي وفق مبدأ القرب Proximité تُقاس مهنيّة الوسيلة الإعلاميّة أو الاتصاليّة وتُقاسُ درجة الحريّة والاستقلاليّة والحياديّة التي تتمتّع بها. أُعيد وأكرّر وأؤكّد، مُتسائلا: أليس من حق مشاهدي «الجزيرة» معرفة الوضع القطري الداخلي: كيف هو؟ ما نمط الحياة هناك؟ ما هي الفلسفة الّتي تقود هذا المجتمع؟ وما طبيعة العلاقة هناك بين الحاكم والمحكوم وكيف هو حال الناس والاقتصاد والثقافة والتربية والتعليم؟ لماذا تخلّت «الجزيرة» عن دورها في استثارة وطرح القضايا القطريّة المحلية على أهميتها إلى الاهتمام الممجوج بقضايا ومشاغل الآخرين؟ ماذا تفعلُ «الجزيرة» في الشؤون القطريّة المحليّة ولماذا يتحوّل بفعل فاعل اهتمامها المحلي المرغوب والمأمول إلى اتهامات أخرى تصبّ جام غضبها على وقائع في أماكن بعيدة عن الهموم القطريّة وكم هي عديدة كهموم أيّ قطر أو دولة في العالم؟ ومثلما أبرز ضيوف برنامج «الرابعة» فإنّ برامج قناة الجزيرة الإخبارية أو الحواريّة تخضعُ إلى سلوكات التوجيه Orientation، وهذا السلوك الإعلامي ثبت وبالمكشوف أنّ وسائل إعلاميّة عديدة تخضعُ إلى سلطانه سواء أكان رأس مال متحكّم في التمويل أو سياسي يستهدفُ اكتساح المشهد الإعلامي لزرع رؤاه وتصوراته حول مختلف القضايا والملفات. ومنذ فترة أقرّ خبراء علوم الإعلام والاتصال إلى أنّ حالة من الانبهار أصبحت تهزّ الرأي العام الدولي تجاه هذا الفعل العجيب للوسيلة الإعلاميّة الّتي أصبح بمقدورها فعل ما تُريد بما في ذلك ليس فقط من إثارة بل وعلى صناعة الأحداث عبر سلوكات الانتقائيّة والإجحاف في رصد المستجدات والأخبار والوقائع وعبر السعي الدائم لخدمة أجندات السياسيين ورؤوس الأموال إلى حدّ أصبح معه من الصعب فصلُ تلك الأدوات الإعلاميّة وخطوط عملها عن مناهج وغايات وأهداف المتحكمين في تسييرها وفي تمويل بقائها قيد الوجود. وليست الانتقائيّة أو الانتقاء Sélective إلاّ سلوكا إعلاميّا في غاية الخطورة يبحثُ عن تضخيم أحداث بعينها عبر التركيز عليها وخفض قيمة أحداث ومستجدات أخرى قد تكون أكثر قيمة ودلالة للمشاهد والمستمع. الخضوع لسلطان المال والسياسة والاقتصاد لقد كشف التأريخ للصحافة والإعلام أنّهما كانا وما يزالان تحت سيطرة ونفوذ أكثر من سلطة اقتصادية وسياسيّة وثقافيّة وأنّ ما يُقدّم عبر مختلف وسائل الإعلام ليس هو في نهاية الأمر إلاّ خلاصة لاستراتيجيات كاملة ونتاجا لخطط وبرامج محكمة التنسيق وضعها رجال الاقتصاد والسياسة والمال الّذين برعوا في صناعة الخبر وتطويع المادة الإعلاميّة بحسب أهوائهم ورغباتهم ووفق طموحاتهم خاصة في ظلّ التحولات التكنولوجيّة اللافتة والنظام الإعلامي الدولي الجديد الّذي انبثق من رحم النمط الليبرالي الّذي جعل مبدأ التسويق La Marchandisation والربح أساسا للتعاملات والعلاقات بين البشر في كلّ الميادين بما فيها العملية الاتصالية والإعلاميّة. إنّ قناة في ضخامة حجم «الجزيرة» يجب عليها أن تخضع إلى سيل من المساءلات وعليها أن تكشف بنفسها عن حقيقتها الخفيّة وتقف عند أخطائها في نقل المعلومة وتصوير الحدث وإجراء المقارنات والتحاليل. مُساءلات برنامج الرابعة أخضع «الجزيرة» إلى مُساءلات عديدة هامّة تستحقّ المتابعة وليس من عيب في أن يُقال مثل هذا الكلام في قناة لم يهدأ سيل الانتقاد والاتهام إليها منذ نشأتها بل تدعّمت كلّ تلك القراءات مع غلوّ القناة في الانتقائيّة والإجحاف وتغييبها لمبدإ أساسي في العمل الإعلامي المهني ألا وهو الإنصاف أو الحيادية من كلّ الأطراف والمجوعات والدول. إنّ ما تخضعُ له «الجزيرة» اليوم من مُساءلات وسيل من الاتهامات أمر من طبيعة متابعة وتقييم أداء أيّ وسيلة إعلاميّة في العالم ومن المفروض أن يقوم بتلك المهمّة أصحاب الشأن أنفسهم، ولكنّ الفرق بين «الجزيرة» وغيرها أنّ «الجزيرة» أغفلت تقييم شؤونها وتفاصيل مسيرتها بنفسها مثلما تقتضي الأعراف ذلك وتركت تلك المهمّة لغيرها.. فهل من سميع؟