تمر هذه الأيام الذكرى السنوية الأولى على اندلاع شرارة المحرقة الصهيونية على قطاع غزة: بشرا وحجرا وشجرا.. وهي محطة يفترض أن يتوقف فيها المجتمع المدني ليطرح على نفسه عديد الأسئلة لعلّ أبرزها: لماذا حدث ما حدث؟ هل انتهى العدوان فعلا على غزّة؟ إذا كانت الدبابات والطائرات والقنابل تقتل، ماذا عن الحصار؟ أليس أشد فتكا وتدميرا؟ إلى متى يستمر مسلسل الصمت؟ وإلى متى تستمر جريمة الاحتلال بما يتولد عنها من جرائم وفظاعات؟ بكل تأكيد يدرك المجتمع الدولي وبصفة خاصة كباره وبصفة أخص الولاياتالمتحدة التي تدعم إسرائيل في كل الأوضاع والحالات أن اسرائيل أصبحت بمثابة الدولة التي تقف فوق القانون الدولي وفوق المحاسبة والمساءلة وفوق الانصياع لقرارات الشرعية الدولية.. وبكل تأكيد أيضا فإن هؤلاء جميعا يدركون أن الاحتلال مهما أوتي من أدوات الغطرسة والعدوان إلا أنه أعجز عن مصادرة الارادة.. ارادة المقاومة والقتال لتحرير الأرض واستعادة الحرية وتقرير المصير بعيدا عن أية وصاية.. ومن هذه الزوايا فإن الاحتلال يستدعي بطبعه الشعوب المحتلة لمقاومته وهو ما دأب عليه الشعب الفلسطيني منذ أكثر من ستة عقود هي عمر مأساة شعب يقبع نصفه تحت ذل وقهر الاحتلال ونصفه الآخر في الشتات والمنافي. وحين يمارس الشعب الفلسطيني في غزة أو في الضفة الغربية حقه الذي كفلته كل المواثيق والقوانين والشرائع في مقاومة الاحتلال والعمل على دحره، فإنه يمارس حقا طبيعيا ومشروعا.. طالما أن قرارات الشرعية الدولية التي تكفل حقوقه وتعد بالعشرات تنام منذ عقود في رفوف الأممالمتحدة ولا تجد طريقها إلى التنفيذ. فهل ان مقاومة الاحتلال هي «أم الخطايا» حتى تنطلق الآلة العسكرية الصهيونية تدك القطاع على رؤوس من فيه وبمن فيه طيلة 21 يوما فيما المجتمع الدولي يتلذذ بالفرجة على جريمة هي محرقة القرن الحادي والعشرين بكل العناوين وبكل المقاييس. وهل ان قرابة مليون ونصف المليون بشر يعيشون في القطاع هم بشر من درجة عاشرة حتى تنتهك حرماتهم ويتركون وحيدين تحت حمم آلة عسكرية منفلتة من عقالها ومنفلتة من أية ضوابط ومواثيق يفترض أنها تحكم النزاعات المسلحة وتجعل المدنيين العزّل خارج دوائر الاستهداف.. فإذا بآلة العربدة الصهيونية تطاردهم حتى في دور السكن والعبادة وفي المدارس وحتى في مقرات المؤسسات الأممية؟ ليس هذا فقط.. بل ان هذه المحرقة التي تواصلت 22 يوما بالقنابل والصواريخ تتواصل منذ سنة بالحصار الظالم.. ذلك الحصار الذي يمنع أدنى وأبسط مقومات الحياة من دواء وغذاء ومواد أساسية من دخول القطاع.. ويحرم مئات آلاف البشر من التمتع بأبسط حقوق الإنسان ممثلة في الحق في الغذاء والدواء والتنقل.. ان العدوان الذي بدأ عسكريا يتواصل بأشكال أخرى.. لعلّها أشد وقعا وأكثر تدميرا.. وهي بالتأكيد كذلك.. لأن مفعول القنبلة والصاروخ يبقى محدودا مهما أوتي من قدرات تدميرية .. أما الحصار فإنه يفضي إلى القتل الجماعي وإلى الموت البطيء وإلى التدمير الشامل.. وهو مسلسل يتواصل على مرأى الجميع: حتى الاخوة والأشقاء فلم يجدوا غير جدار عازل جديد يكمل حصار المعابر بتوجهه نحو سدّ طريق الانفاق.. وقد ابتكرتها عبقرية المقاومة الفلسطينية وإرادتها تحديا للحصار وعناوين لإرادة مصممة على مقارعته حتى الآخر.. بكل تأكيد العدوان العسكري يؤذي ويقتل ويدمر.. لكن الحصار أشدّ أذى ومفعوله أقوى إبادة.. والاحتلال يبقى أصل البلية.. فلماذا نترك الأسباب الحقيقية وننساق في متاهات عبثية.. لأن إرادة الشعوب لا تقهر.. وهي جالبة لاستجابة الأقدار.. ولو بعد حين.