.. طريقنا معبدة.. وسفينة الأحرار تشق عباب البحر في أمن وآمان.. وسلام.. حاملة أكاليل النصر والتحدي والفداء وشبابا يافعا رافعين راية العز.. هي لتونس أحسن لواء.. فهم حماة الوطن من الخونة والأعداء.. مثلما كان السابقون من المناضلين والمقاومين الأوفياء الذين سقطوا في ساحات الوغى فسقوا بدمائهم أرض بلد هو الآن زينة البلدان.. وبهجة كل الأمم.. لنعيش في كنف الحرية. قلوبنا مفعمة بحب تونس وكلنا اخلاص لمن ضحوا في سبيلنا حتى نكون سعداء.. لقد حملوا السلاح.. سكنوا المغاور والكهوف.. سجنوا.. أعدموا.. واغتيلوا.. لكنهم ظلوا على دفة النسيان.. مقبورين.. ولا يكاد يُعرف لهم تاريخ.. سوى تلك العلامة أواللوحة المعلقة برأس هذا النهج.. أو ذاك.. دونت أسماءهم عليها.. فماهي صفتهم؟ كيف عاشوا، وماهو الدور الذي لعبوه طوال تلك الحقبة من مسيرتهم الحافلة بالنضال؟ عندما نعبر شارع ما.. تستحضرنا الذاكرة قليلا فنقف لنسأل أنفسنا أولا من يكون هذا الوطني الأبرّ الذي أطلق اسمه هناك؟.. ثم ترانا نسأل عامة هل يعرفون مثلا زعيم الشباب علي بلهوان؟ الرائد البجاوي.. علي درغوث والحسين بوزيان أو حتى مفتاح فرحات؟.. لا شيء اختزن بذاكرتهم عن هؤلاء.. باستثناء فرحات حشاد والدغباجي.. ومن المفارقات العجيبة أن أستاذا جامعيا التقيناه صدفة أمام مقر وزارة التعليم العالي فأخذناه على «الطاير» هل تعرف «أولاد حفوز» فقال لنا.. «كيف لا فهي منطقة بالجنوب التونسي..(!). ربما كان جواب الأستاذ في محلّه باعتبار أن «أولاد حفوز» مدينة ترجع بالنظر الى ولاية سيدي بوزيد.. لكن أصل التسمية غابت عن صاحبنا.. ويجهلها تماما.. فهذه المنطقة تحمل اسم الشقيقين الشهيدين الطاهر وعلي حفوز.. إن ما يعرف عن المناضلين الأبرار ومقاومي الاستعمار هو قطرة من بحر إن لم يكن أقل منها بكثير لغياب النصوص والمؤلفات والمراجع التي من شأنها أن تنمي الذاكرة وتنعشها.. إن الحركة الوطنية ورجالها مقوم ثابت في حياتنا.. إذ أنه ينبغي رسوخه عبر آليات تكون في المتناول والمتداول سواء في المؤسسات التربوية بمختلف أصنافها أو من خلال التلفزيون والسينما.. ويبقى التلفزيون هو الوسيلة الأفضل والأقرب والأقنع في احياء الذاكرة لدى عامة الناس وتنشيطها.. ثم لا ننسى وهذا الأهم الدور الكبير الذي ما فتئت تقوم به «الشروق» بتخصيص حيز من صفحاتها للحديث عن رموز الحركة الوطنية في كل جهات البلاد. رواد المؤلم أن هؤلاء الشهداء وغيرهم من مقاومي الاحتلال الذين أطلقت أسماؤهم على شوارع وأنهج بمسقط رؤوسهم مازالوا في غياهب النسيان لدى سكان وأهالي مناطقم تلك، فمعظمهم لا يملكون ذرة علم واحدة عن مناضلي وشهداء جهاتهم.. وهي في واقع الأمر مصيبة كبرى.. إنّ البلديات معنية أكثر من غيرها بهذا الموضوع من خلال تدوين بعض الملاحظات على اللوحة تخص أصله وتاريخ ميلاده واستشهاده أو حتى المسؤوليات الحزبية والوطنية التي كلفوا بها سابقا وكان لهم دور ريادي في مسيرة الاصلاح بوجه أو بآخر على غرار الصادق مقدّم.. ومحمود المسعدي وجلولي فارس وأسماء أخرى لا تقل قيمة ولا نضالا عن السابقين من أبناء تونس التحول. سألت مسؤولا باحدى البلديات إن كان له معرفة تاريخية بهذا المناضل الذي يقطن في شارعه فأقسم لي بأغلظ الايمان أنه يفتقد لكل معلومة عنه، فكيف إذن لمواطن عادي يجهل القراءة والكتابة وما يهمه من أمر دنياه سوى اللهث وراء خبزة أولاده.. ورغم هذا الاشكال القائم والمحفوف بالغموض حول مسيرة أبطال الحركة الوطنية من «فلاقة» وغيرهم فقد شعرت شخصيا بكثير من الفخر والاعتزاز عندما اعترضني أحد المواطنين بجهة الوسط الغربي فقبل رأسي مباركا حرص جريدتنا وسعيها بردّها الاعتبار للمجاهدين والمناضلين ومقاومي الاستعمار من خلال تلك المصافحة القارة عبر ملحقنا اليومي. لكن يبقى عملنا في حاجة الى الدعم والتطعيم بانتاج أشرطة وثائقية وأخرى سينمائية طويلة تبرز قيمة هؤلاء الأفذاذ وتكون بمثابة التكريم لهم فهم يستحقون هذه اللفتة. وهذا الوشاح بدلا من التشكي والبكاء على أعتاب وزارة الثقافة والاستجداء لدعم أشرطة تسيء للذوق العام.. وأخرى دون المستوى من حيث الشكل والمضمون والصور ة الى جانب غياب السيناريو الجيّد.. وممثلين قادرين على إعادة ملحمة التاريخ جزءا بجزء.. أين الاضافة فمن غير المعقول أصلا أن نظل ننتظر أشهرا عديدة لمشاهدة عمل سينمائي ذي جودة عالية، لكن بعد اليأس والقنوط يطل علينا مخرجونا بأشرطة «بايخة».. تاعبة.. من صنف «الشوانط».. عفوا المقاولات.. فماهي الاضافة التي قدمتها أشرطة مثل «عصفور سطح».. «صندوق عجب».. «الستار الأحمر» و«موسم الرجال» للساحة السينمائية التونسية؟ أليس الأجدر بفريد بوغدير ومفيدة التلاتلي ورضا الباهي البحث في سجلات الحركة الوطنية وتقديمها في طبق من ذهب للأجيال التي لا تعرف عن تاريخ بلادها سوى أيام المناسبات فقط، من عيد الاستقلال الى عيد الجلاء مرورا بحوادث 9 أفريل 1938.. أليس الأجدر بمنتجي الأفلام وكتاب السيناريو تدوين أسمائهم في عمل فني ضخم يروي سيرة آبائنا وأجدادنا النضالية في شتى المواقع والذين مزق أحشاءهم رصاص الأوغاد... أليس من حقنا مشاهدة ولو شريطا واحدا يتناول حياة الزعيم النقابي فرحات حشاد او الهادي شاكر... او الحبيب بوقطفة او حسن النوري... او اليمباشي محمد البجاوي مثلا.. وبقية أخرى ممن سقطوا على أرض النفيضة.. وتازركة.. والجلاز وما أكثر البقاع التي روتها دماء حماة الوطن. تقصير فأين هي وزارة الثقافة والمحافظة على التراث.. ولماذا بقيت بعيدة او خارجة عن الموضوع؟ فماذا يمكن تسمية ذلك؟ هل هي اللامبالاة؟... ما شاهدناه خلال العقود الماضية من عمر الاستقلال هي مجرد محاولات لا تسمن ولا تغني من جوع ولم تصمد طويلا في ذاكرتنا باستثناء بعض العبارات «يا خالتي وردة صالح جاء» من فيلم الفجر لعمار الخليفي، و«Viva Bourguiba» من شريط التحدي، نطقها الممثل المرحوم محمد ممدوح... من جانبها فإن التلفزة التونسية مقصرة الى حد ما في هذه المسألة وكأن قواد «جمع قائد» الحركة الوطنية ورموزها من الرجال والنساء على حد سواء لا يعنونها... وفي المقابل تراها تدعم وتشجع برامج الواقع التي هزت كيان العائلات التونسية وترصد الاموال الطائلة لانتاج المسلسلات أغلبها تفتقر الى الجودة ولم ترتق الى مستوى ذوق المشاهد وقيمتها كقناة وطنية. مسلسلات انعدمت فيها الحبكة الدرامية خاصة من الناحية الجمالية وتناسق الاحداث وقد برز ذلك جليا في مسلسل «كمنجة سلامة» و«صيد الريم» الذي أسال حبرا كثيرا دون التغافل عن مسلسل «الليالي البيض» حيث اثار بعض الجدل عند بثه لتزامنه مع بث مسلسل يحمل نفس الرؤية والاسم على القناة الجزائرية «الليالي البيضاء». حتى ان الاحداث في كلا العملين التونسي والجزائري تقريبا متشابهة. ما ضرّ لو؟ ونحن في هذا اليوم المبارك الأغر نعيش الذكرى 72 لحوادث 9 أفريل 1938 فإن وزارة الثقافة والمحافظة على التراث وادارة قناة تونس 7 مدعوتان أكثر من غيرهما للاهتمام برموز الحركة الوطنية من خلال انجاز بعض الاعمال التي تخلد تاريخهم ونضالاتهم ومن ثم تقديمها للأجيال الجديدة والصاعدة مادة معرفية لمن كانوا قدوة لنا وسببا في استقلال بلادنا دون التعويل على شركات الانتاج لأن مهمة هذه الشركات التطبيل للباطل الفني. ومثلما جرت العادة ان نحتفل كل سنة باليوم الوطني للارشيف فلا بأس اذن من ان نشاهد في هذه المناسبة الجليلة أعمالا ذات طابع تاريخي تروي لنا وللعالم مسيرة أبطال تونسيين قهروا الغزاة والغاصبين طغاة الزمن... عوض النفخ في البالونات التي تطير مع أول نسمة ريح فلا يعثر لها على أثر... أليس كذلك يا سي علي اللواتي، وعم الطاهر الفازع، أم ان عقلية «ملي دفنوه ما زاروه» هي التي تعمل الشهرة وتوكل الخبز»؟!