ذكّرتني الهالة الاعلامية النقدية والانتقادية التي أحاطت باحتفالات مائوية الشاعر والأديب مصطفى خريف والتي أقيمت بمسقط رأسه ومرقده الأخير الكوفة الصغرى الغرّاء نفطة لا من حيث أهمية التظاهرة وجدواها ونتائجها باعتبارها قدحا للذاكرة الادبية والفكرية الوطنية وإكبارا مستحقا لمسيرة إبداعية هامة لأحد الأدباء التونسيين شعرا وقصة وإعلاما في الاذاعة والصحف والمجلات ولكن من حيث ما قيل حول تغيّب عديد الوجوه الشعرية الوطنية والجريدية وتغييب اتحاد الكتّاب التونسيين إعدادا ومشاركة وحضورا كما أكدته في أكثر من مناسبة ومنبر رئيسته الاستاذة الشاعرة جميلة الماجري. وبقطع النظر عن السجال الدائر في هذا الغرض والذي نراه متكأ ومعبرا لغايات تتجاوز الحدث لأنه لا يحق لأحد أن يقصي غيره عن تظاهرة وطنية دعا إليها مشكورا رئيس الدولة وانتظمت تحت سامي إشرافه وسهرت على تنظيمها وزارة الثقافة والمحافظة على التراث فسخّرت لها إطاراتها واتصالاتها وأموالا للمجموعة الوطنية. كما أنه لا مناص مبدءا ومنهجية وجدوى لاتحاد الكتّاب التونسيين من المشاركة الفاعلة مهما كانت الاسباب باعتباره أبرز دعائم الثقافة الوطنية ماضيا وحاضرا ومستقبلا وشريكا ضروريا في نحت مسيرتها وتحقيق تطلعاتها لا لمكانة منخرطيه وتمثيلهم فقط بل لأنه كذلك مؤتمن على هذا الدور الموكول له من قبل الدولة والرأي العام. وللحقيقة فقد سجلت هذه الاحتفالات نجاحات ومكاسب هامة من خلال الندوات والامسيات والعرض الوثائقي وترميم وتعصير الروضة ودار الثقافة الحاملتين لاسم الفقيد وفي جلب اهتمام الاوساط الثقافية وطنيا وجهويا ومحليا بتشريك أساتذة محاضرين أجلاء سبق أن درسوا المنجز الابداعي للشاعر الأديب من قبيل المتميز دائما توفيق بكار الذي يضفي حضوره في التظاهرات الثقافية هيبة الفكر وجلال الابداع وشمولية النقد ودقة العبارة وتجليات المعنى وأصالة الذوق وكذلك الاستاذ الشاعر الناقد حسين العوري وغيرهما مما يستوجب وقفة ثناء وتقدير للهيئة الوطنية المنظمة وعلى رأسها الأستاذ محمد مواعدة بتأطير ودعم من السيد وزير الثقافة والمحافظة على التراث. قد نشهد امتدادات لهذه التظاهرة في جهات عديدة وتأثيرات على كواليس اتحاد الكتّاب ومؤتمره القادم إلا أن الأهم والمأمول هو العمل على تجسيم الاقتراحات والتوصيات المنبثقة عن هذه الفعاليات ومن أبرزها السعي الى جمع مختلف كتابات الفقيد وإنتاجاته الصحفية والاذاعية وإصدارها حتى يستفيد منها من أراد. سبق أن قلت إن الغيابات والتغييب عن هذه الاحتفالية ذكّرتني بما حدث منذ 76 سنة عندما أقيمت أربعينية الشاعر الخالد أبي القاسم الشابي يوم 23 نوفمبر 1934 بما كان يسمّى دار الجمعيات بشارع باريس بالعاصمة بمساهمة كل من: 1 جمعية المؤلفين والكتّاب. 2 جمعية ابن خلدون. 3 جمعية قدماء الصادقية. وحضرها أكثر من 1200 شخص ما بين سياسيين وشعراء وأدباء وصحافيين ومحبّي الثقافة وصحافيين من تونس وأرجاء الوطن العربي فهل من وجه للمقارنة مع ما يحدث الآن في تظاهراتنا الثقافية إلا أن ما أثار الساحة الادبية والفكرية في ذلك الوقت تمثل في غياب عديد الشعراء البارزين في تلك الفترة وقد عايشوا الشابي وعرفوه ولئن تعلّل بعضهم بالمرض أو التضييق الاستعماري فإن ذلك لم يشفع لهم لدى الرأي العام وخاصة عند المرحوم زين العابدين السنوسي صاحب مجلة «العالم الأدبي» التي خصصت عددها الثاني من سنتها الرابعة الصادر في 24 ديسمبر 1934 للحديث عن الاربعينية فكتبت حول ذلك الغياب: «على أهمية حفلة تأبين الشابي وعظمة يومه فقد تخلّف بعض شعراء العاصمة التونسية عن شهودها رغم ما هزّهم من منعاه ورغم تقديرهم لتفوّقه وعبقريته وأهمية رسالته وقوة ضميره فهو القائل: من جاش بالوحي المقدّس قلبه لم يحتفل بحجارة الفلتاء وإنما كان تغيّب مجموعهم لما طرأ عليهم من انحراف وافد ندعو لهم بالشفاء والنقاهة منه «يلمس القارئ من خلال ما كتب اتهاما مبطّنا لمن تغيّب يصل الى تشبيههم ب«الفلتاء» باعتماد قول الشابي وأن تعلّلهم من قبيل الانحراف مما يدعو الى الدعاء لهم بالشفاء التام منه بل والنقاهة أيضا وفي ذلك بعض السخرية والاستهزاء وعدّدت المجلة بعضهم مضيفة أوصافا عرفوا بها أو أرادوها وأخرى مستحدثة مثيرة للاهتمام. محمد الشاذلي خزندار «الملقّب بأمير شعراء تونس» حافظ ناموس الخليل بن أحمد. العربي الكبادي الذي وصفه الكاتب ب«أمير الشعر وعميد الأدب وصاحب المجالس الادبية العذاب». والشيخ الذي لا يبارى في بداعة سياقه وحسن تنقله بين روائع الأدب عموما والأندلسي خصوصا. بلحسن بن شعبان «أشهر الأدباء المحافظين». الطاهر القصار «شاعر تونس الصيداح الذي عوّدنا منذ سبع سنوات لا يكاد يمر سوق أدبية أو موسم اجتماعي لا يكون لقصائده القدح المعلّى». ولا يتسع المجال هنا للخوض في علاقات هؤلاء بالشابي أو آرائهم فيه ومواقفهم منه وكذلك رؤيته لهم. لكن الموقف يختلف تماما في تظاهرة مائوية مصطفى خريف إذ أن لجنتها الوطنية لم تقم بإصدار الدعوات لعديد الشعراء وتترك لهم حرية الغياب متعللة بأسباب هم وحدهم من يتصرفون إزاءها. وظني أن الزمن لن يحفظ من كل هذا ما لم يرق الى «شوق وذوق» سيدي مصطفى.