لم يكن الحديث الأخير الذي خص به الوزير الأول السيد الباجي قائد السبسي ثلاث قنوات تلفزية ليحدث ما أحدثه من جدل وحرج لدى البعض كان جزءا منه مفتعلا بلا شك لو كانت للحكومة فرص التصحيح والتعديل والتوضيح أولا بأول في مختلف النقاط الخلافية التي هي في صلب العمل السياسي خصوصا في مرحلة انتقالية استثنائية مثل التي تعيشها تونس اليوم والتي من مميزاتها تعطش الرأي العام للشفافية ومعرفة خفايا الأمور خصوصا مع كثرة المتدخلين بغثهم وسمينهم في المجال السياسي والاقتصادي والقانوني والإعلامي . والحالة على ما هي عليه وجبت الإشارة هنا بلا شك إلى الوضع الصعب الذي تواجهه الحكومة الانتقالية التي تجد نفسها بلا حزب يساندها ويعرف بنشاطها مقابل مجمل الأطياف السياسية بما فيها هيئة تحقيق أهداف الثورة ومجلس حماية الثورة التي تقف منها موقف المعارضة وتدعي كلها حماية الثورة على اختلاف مشاربها يعضدها في ذلك الشارع والإعلام الذي لا سلطة للحكومة عليه.. فمن المفروض والمنطقي أن يكون صوت الحكومة حاضرا بين مجموع هذه الأصوات على الأقل فإن تكون الحكومة مؤقتة فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن تلغي تواصلها مع الرأي العام ومكوناته نظرا لأهمية دورها ودقة المرحلة وما يجري على حدودنا وفي المنطقة من أحداث.. كما أن حق ممارسة حرية التعبير بمختلف أشكالها يبقى بلا شك أهم مكاسب الثورة لكن هذا الحق لا يعفي من ضرورة التحرك لوضع حد لمظاهر العنف والفوضى والتخريب التي تشهدها مختلف جهات البلاد والتي عطلت السير العادي للحياة وشلت أجهزة الدولة ودواليب الاقتصاد خصوصا أن كل الإمكانيات متاحة لعقد الاجتماعات والمنتديات والمهرجانات بكل حرية فضلا عن ان هناك اليوم عددا هائلا من الأحزاب التي تم إحداثها والتي يمكن النضال صلبها وكذلك تسخير الوزراء والولاة وكل القائمين على المرافق العمومية للإنصات إلى المواطن وإيلاء شؤونه ما تستحقه من عناية ومتابعة.. والإنصات إلى المواطن وخدمته يستدعيان اليوم من بين ما يستدعيانه أن تبادر الحكومة الانتقالية بالإخلاء الفوري للمصانع والممتلكات الفلاحية من المشاغبين والمخربين الذين لا علاقة لهم بهذه المستغلات التي عطلوا سيرها العادي وأضاعوا العديد من مواطن الشغل بها ونفروا المستثمرين التونسيين والأجانب من الاستثمار ببلادنا.. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا ..هل هناك ما يمنع المنابر الصحفية والمنتديات على كثرتها من التداول في الصيغ والطرق الحضارية لممارسة الحقوق السياسية وتنظيم المظاهرات دون أن تزيغ عن أهدافها الديمقراطية والسلمية؟.. وهل هناك أيضا ما يحول دون التطرق إلى حدود وأبعاد المهام الحيوية لرجال الأمن في حماية الأشخاص والممتلكات الخاصة والعامة دون المساس بمكاسب الثورة في جوهرها ونبل أهدافها بعيدا عن الفوضى والتهور؟ الإجابة عن هذين السؤالين قد تستدعي لدى البعض استحضار تداعيات القنبلة السياسية التي فجرها مؤخرا وزير الداخلية السابق فرحات الراجحي الذي شغل على امتداد الأيام القليلة الماضية الجميع بالاتهامات التي وجهها للحكومة الانتقالية والمؤسسة العسكرية متغافلا عن ضرورة الالتزام بما تفرضه عليه مسؤولياته السامية من واجب التحفظ والتضامن الحكومي والوعي بتبعات أقواله وأفعاله وما قد يترتب عنها من أضرار بالمصالح العليا للبلاد لا قدر الله.. فالسياسة وإدارة الشأن العام تقاس بالنتائج وليس بالنوايا والتعامل مع الجماهير ليس بالأمر الهين ويفرض النكران الحقيقي للذات.. والإمساك عن الانسياق وراء الأهواء ..وأيضا التعامل بشفافية مع مختلف المسائل والقضايا الهامة بما من شأنه آن يبدد هواجس الناس ويبعث فيهم الطمأنينة.. وبناء على ذلك فإن الاعتذار (المناورة) الذي قدمه السيد فرحات الراجحي لا يغير في الأمر شيئا لان الموضوع ليس قضية بين شخص الراجحي والجنرال عمار بل هو شأن يتعلق بإخلال خطير بالنظام العام كانت نتيجته أضرار جسيمة بالأشخاص والممتلكات وكذلك لان الاعتذار لا يعد خطوة أوشكلا من أشكال الإجراءات التي يعتمدها القضاء في المسائل الجنائية الخطيرة هذا فضلا عن أن ما أدلى به الأستاذ الراجحي يمثل إخلالا جسيما من مسؤول سام بموجبات مهامه بالرغم من علمه علم اليقين أن القائمين على الشأن العام منذ الرابع عشر من جانفي الماضي يستمدون شرعيتهم على تفاوت درجاتهم من تعلق الجيش الوطني الأبي بقيم الجمهورية وبناء كل ماقام به من مبادرات وتحركات على هذا الاساس . كما نلاحظ في السياق نفسه أن هذا الاعتذار لا يعطي الانطباع بأنه صادق لأن السيد الراجحي أهمل من جانب الجزء المتعلق بالوزير الأول في تصريحاته موضوع الاعتذار ومن جانب ثان حاول بالنداء الذي وجهه إلى الشعب التونسي أن يساوم ضمنيا الأطراف المقابلة بما فيها السلط القضائية بالشعبية التي يتوهم انه مازال يتمتع بها لدى الرأي العام. ومن هذا المنطلق فإن صيغة التعامل مع هذه المسألة وغيرها من المسائل لا تتأثر بكون أن الحكومة الانتقالية مؤقتة مثلما يحلو للبعض التأكيد عليه بطريقة استفزازية كما لو كان العيب في الحكومة وليس في الأوضاع التي فرضت عليها وعلى شعبنا في الآن نفسه في حين انه كان حريا بهم ألا ينسوا أو يتناسوا أن الكثير من البلدان الغربية الكبرى العريقة في الديمقراطية مثل ايطاليا قبل بضع سنوات أو الجمهورية الرابعة بفرنسا عاشت في ظروف عادية التقلبات الحكومية لسنوات لم تكن الحكومات تصمد فيها لأكثر من بضعة أيام.. ومن هنا فإن المطلوب بإلحاح, رأفة بتونس وبشعبنا وبالحكومة المؤقتة, التخلي عن الهامشيات والقشور وتركيز الجهد كل الجهد على أصل القضايا, وما أكثرها في هذه المرحلة التي تعد مفصلية في تاريخ شعبنا في كل المجالات . ٭ بقلم الاستاذ عبد الله العبيدي (محلل سياسي وخبير في العلاقات الدولية)