لم أكن أريد الكلام، فليس من شيمي القدح أو الشكوى، حاولت أن أتناسى بقصد تسامح اعتقدت أنه نابع من ثقة بالنفس، وأن حياتي أفضل من حياتهم، لم أرد أن أعود للماضي وأشتري زمني بحفنة من الكلمات، حاولت أن أكسر ريشتي لكن الجراح نكأت على حركة وجدان الشارع للتعبير عن ألمي وغضبي واحتجاجي، لم أعد أبحث عن التسامح، لست بحاجة لثقة في النفس بل بحاجة لهدوء في النفس، وكيف لي أن أنسى اثنى عشر سنة من التهميش والعذاب؟ استيقظ الغضب وأنا أشاهد وأستمع تبجح رجل صغير يعتبر نفسه مسؤولا كبيرا، معلنا نزاهة بائسة ونضالا ثوريا يجهل حتى معناه. أستعير عنوان كتاب ويليام رايش «اسمع أيها الرجل الصغير» الذي يحكي فيها عن الرجل الصغير الذي جرد نفسه من هويته الانسانية وجعل من طاقته وتاريخه ورغباته مساحة فارغة للعنف، عنف متعدد الوجوه والأبعاد، وفيه يبدو «الصغير» عدو نفسه قبل أن يكون عدو الشعب، ذاك أنه متحرر من سمات المسؤولية الفردية والاجتماعية والأخلاقية، يعيد ما يحلم به المستبد بحذافيره، انه تاليا، شيء يجسد لفكرة الديكتاتور. هل تذكر أيها الرجل الصغير حين كنت مسؤولا أصغر لنفس المؤسسة يوم نزلت معربدا هائجا ثائرا تلعن وتشتم وتصفني بكل النعوت الشائنة لأنني تكلمت بمن أسميتها وأسميتهم «للاتي والعائلات الكبيرة»، واتضح أن للاتي هي ليلى بن علي والعائلات الكبيرة عائلة الطرابلسي، هل نسيت تحالفك مع رجل صغير آخر، ذلك المنشط العبقري الذي رأيته سنوات يكبر سنا ويصغر قدرا، ركع تحت أقدام الماجدة وعائلتها في عهد الرئيس بورقيبة، ثم انبطح تحت أقدام العائلة الجديدة وعمل جاهدا لضرب من حوله حتى الأصدقاء تقربا وتملقا، تحالفت مع ذلك العبقري لتقديم تقريرا ضدي لسيدتكم الفاضلة حرفتم أقوالي تعلموها بأنني نعتها بنعوت لا توجد في مفرداتي اليومية ولا الاجتماعية، لكن عالمكما أنت والمنشط العبقري كان مغلقا في معاني تلك الكلمات، وبما أنه كان لي سوابق من عدم الرضا من الزمرة الفاعلة خاصة ذلك الرجل الصغير حجما الكبير شرا الذي جعل من تحطيم الاعلام شغله الشاغل، تفاقمت بسبب وشايتك أيها الرجل الصغير متابعتي ومضايقاتي حتى وصلت الى اتهامي بقضية مخدرات أجبرت بعدها على الرحيل والابتعاد الى الوطن الآخر، ليس لدي رغبة أو جهد لسرد كل ما جرى في حياتي منذ 12 سنة بسببك، لكن أريد أن أسألك أيها الرجل الصغير، ماذا جنيت من تصرفك و تملقك وريائك، هل ما اعتقدته دفاعا عن سمعة النظام الفاسد أضاف شيئا لسمعة النظام؟ هل تحمسك «للسيدة الفاضلة» أدخلك جنة الخلد؟ أو جعل ضميرك أنظف وأصفى؟ هل قطع الأرزاق والتسبب بالسجن والتشرد أشفى غليلك؟ هل قول الحق كان في نظرك جريمة واليوم تتبجح بقوله وأنك نزيه ومناضل ثوري؟ أيها الرجل الصغير اختشي واخجل فللتاريخ ضمير. عندما تنظر الى المرآة هل تعكس لك صورتك كما هي حقيقة أم مثلما تتصورها من خلال خطابك العقيم ونفسك العارية دائما أمام المستبد؟ هل تخاف منك فتهرب من نفسك الى أسوإ منك؟ أنت «رجل» مريض كلما حاولت أن تصدق ولو نادرا مع نفسك، يمكن لأي حاكم مريض داخليا مثلك أن يتحكم بك. أسمعك تتكلم رغم أنني أحاول تجنب ذلك، وأستنتج من كلامك وتصرفك أنك تشعر بسعادة مطلقة، فهناك من يصنع لك الأخبار السرية يوميا كما كنت تصنع للمستبد أخباره السرية اليومية، تجعل من الواقع مرآة وصورة لك، تدخل في تفاصيل يوميات الناس وتحاول أن تعرف عمن تظنهم أعداءك كل شيء، اسمع أيها الرجل الصغير، أنت عدو نفسك والمسؤول عن كل ما يحصل وسيحصل لك، أنت سبب عبوديتك، لا تهتم الا بوصوليتك، أنت أبله وخانع وغدا سيأتي مستبد آخر وسيفعل بك ما يريد، لن تعرف معنى حريتك الشخصية لأنك بلا حرية وبلا شخصية، الحرية الوطنية ليست عظمتك الخاصة، لا تعتقد أنني أريد احتقارك، يكفيني أنك تحتقر نفسك بنفسك، ان خفت منك في الماضي خوفا عظيما مميتا فلأن مصير الانسانية مبتليا بأمثالك جلادون بالوكالة، اليوم كل هؤلاء رحلوا «للاتي» والعائلات الكبيرة والمنشط الرقاص الخليع، وغدا سترحل أنت وسأبقى أنا بزادي وزوادي محبوبة محترمة من أهل الوطن الذي أحب والذي لا تعرفه أنت رغم أنك فيه. سأبني وطني مع الأقوياء، فالخائفون لا يصنعون الحرية، والمنافقون لن تقوى أيديهم المرتعشة على البناء، غدا سأغفر لكل الجاحدين لكنني لن أنسى، سأتركك للزمن الذي ربما سيكون كافيا لنسياني .