ظهرت كتب الاصول الحنفية صائدة للمعنى النظري الاستدلالي ولا قاطعة النظر عن الفروع الفقهية كما قطع امام الحرمين والغزالي والمازري انظارهم عن الفروع وتمسكوا بالاصول تمسكا مبدئيا نظريا يناقشونها في ذاتها كأنها وضعت لنفسها ولم توضع لاستخراج الفروع منها فبقيت طريقة البزدوي التي هي طريقة جدلية ، كما كانت طريقة الشافعي مسيطرة على الاوضاع الاصولية من طرف فقهاء الحنفية . فكانوا يتجهون تلك الوجهة الجدلية الاستدلالية فيعقدون الابواب على حسب المباحث الاصولية ويوردون القواعد الاصولية على ما عليه ايمة المذهب الحنفي . ثم يكثرون من ايراد الفروع الفقهية ويبينون كيفية تفرع الفرع عن اصله ويناقشون في الاصل كما يناقشون في الفرع ويجعلون مناقشتهم متجهة دائما الى كتب الاصول الشافعية والى فروع الفقه الشافعي . وعلى ذلك نرى ان علم الاصول في الوقت الذي اتجه فيه الامدي والبيضاوي وابن الحاجب والقرافي الى الاوضاع التي امتاز بها القرن السابع متجليا بالنسبة الى المذهب الحنفي في الوضع الذي امتاز به كتاب الامام النسفي في الاصول الحنفية وهو كتاب « المنار « . ثم جاء بعده صدر الشريعة فوضع كتابه « التنقيح « ووضع عليه شرحه الذي سماه « التوضيح « فكانت السلسلة الحنفية متجهة الى التطبيق الاصولي على المسائل الفرعية ومتجهة الى الاستقلال عن الاصول النظرية التي وضعها من قديم ابو بكر الباقلاني والتي تاثر فيها بالمبادئ الاشعرية .فذهبت كتب اصول الفقه الحنفية مجافية للاشعري مجافاة سكوتية احيانا او مجافاة ايجابية كما هي في كتاب صدر الشريعة « التنقيح « حتى ظهر بين الحنفية والشافعية فكر نير سما فوق التقسيم المذهبي وفوق التعصب المنهجي الا وهو فكر العلامة الكبير المحقق سعد الدين التفتزاني . فاراد ان يزيل التفكك الذي بين المنهجين الاصوليين وان يسير في خطى استاذه عضد الدين عبد الرحمان الايجي في جعل بحث علم الاصول بحثا غير متجه الى غاية ايجابية ترجع الى نصرة المذاهب ولكنه جعل اتجاهه كما قلنا الى الرياضة التحليلية . فذهب يكتب على كتب الاصول من المنهج المالكي – الشافعي وعلى كتب الاصول من المنهج الحنفي على السواء فوضع حاشيته على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب ووضع حاشيته الجليلة الاخرى التي وضعها على شرح صدر الشريعة على « التنقيح « والتي سماها « التلويح « فكان في كل من الحاشيتين . كما هو شأنه في كل ما وضع في كل علم رجلا مستقلا كثيرا ما حاول ان يفرض اراء الاصوليين في فقهاء الحنفية على ابن الحاجب والعضد فيما كتبه على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب وكثيرا ما حاول ان يفرض اراء الاصوليين المالكية والشافعية بل مناهج الامام الاشعري الاعتقادية على المتكلمين والاصوليين من الحنفية في وضعه التحقيقي الرائع الذي ابرزه في حاشيته على صدر الشريعة المسماة « بالتلويح « . فالى هنا انتهى علم الاصول على يد السبكي والعضد وسعد الدين التفتزاني وقرينه وقريعه السيد الجرجاني الى كونه علما غير ذي اثر وانما هو علم نظري بحت من العلوم التي يجب فيها البحث لا متجها الى غاياتها العملية كما يجري البحث في علم البلاغة وكما يجري البحث في علم المنطق وهي المجموعة التي اصبحت تعرف فيما بعد القرن الثامن بالعلوم العقلية الا اننا عندما ننظر الى جانب علم اصول الفقه الى علم الفقه بذاته نجد انه في الوقت الذي ذهب فيه علم اصول الفقه يجمع الاراء ويجادل فيما بينها اتجه علم الفقه في الاوضاع التي عاصرت اوضاع علم اصول الفقه المعتبرة من عصر امام الحرمين ذهب علم الفقه يتناول في المسائل الفقهية الحكم والعلل والمصالح التي من اجلها روعيت الاحكام الفقهية فكان الذين تكفلوا ببيان غايات الفقه وحكمه وعلله والمصالح المعتبرة فيه انما هم الفقهاء لا الاصوليون . وذهب الفقهاء الذين ما كان الناس يظنون بهم ذلك يضعون القواعد العامة والمبادئ الكلية المجمع عليها المتفق عليها وكثيرا ما يرجعون بذلك الى القواعد التشريعية العامة الجليلة التي ترجع الى جوامع الكلم النبوية مثل « لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفس « ومثل « ليس لعرق ظالم حق « الى اخره حتى ان الامام جلال الدين السيوطي نقل عن ابي داود وان كان ابو داود لم يذكر ذلك في سننه ان الفقه كله يدور على خمسة احاديث منها حديث « لا ضرر ولا ضرار « وذكر السبكي في خاتمة كتاب القياس من « جمع الجوامع « عن ابي الحسين المروزي ان الفقه بني على اربعة ، وربما اختلف في الخامس وهي « العادة المحكمة « « المشقة تجلب التيسير « درء الفاسد مقدم على جلب المصالح « « الاعمال بخواتمها « . وعلى ذلك فاننا كنا نبحث عن مقاصد الشريعة فليس لنا من المنتظر في هذه الادوار التي استجليناها جميعا ان نجد شيئا من مقاصد الشريعة في كتب اصول الفقه وانما نجد مقاصد الشريعة في الاوضاع الفقهية الاولى الموسعة المبسوطة التي كانت تبحث الحكم والعلل والمصالح وتستند في ذلك الى القواعد العامة التي كثير منها يرجع الى اللفظ النبوي الحكيم . يتبع