أكثر من نقطة استفهام طرحها أستاذ أوّل للتعليم الثانوي وإطار إشراف بيداغوجي وعضو نقابة التعليم الابتدائي حول حقيقة وأسباب ومنطلقات تراجع المستوى التعليمي للتلميذ التونسي ومدى علميّة وموضوعيّة الحكم بتدنّي مستوى تلميذي الابتدائي والثانوي. هذه التساؤلات شخّصها المربيان رضا بن رجب أستاذ أوّل للتعليم الثانوي، وإطار إشراف إداري وبيداغوجي (سابقا)، وجلال بوشريط عضو النقابة الجهوية للتعليم الأساسي بولاية بن عروس في حديثيهما ل «الشروق».
فإذا انطلقنا من مسلّمة تكاد تكون جماعيّة حول تراجع مستوى التعليم في تونس واعتماد ذلك تفسيرا لتواضع المردود المدرسي للتلميذ التونسي، يقول الأستاذ رضا بن رجب، فإنّ ذلك لا يعفينا من طرح حشد من الأسئلة في هذا الصدد لعلّ أهمّها: مدى علميّة وموضوعيّة أيّ حكم كي لا يكون مفارقا للواقع ؟ وكم نملك نحن من الدّراسات والإحصاءات العلميّة التي تكشف الحجم الكمّي والنوعي لهذا التراجع وأسبابه، بل ومنطلقاته ومرجعيّاته؟
وواصل محدثنا: «تأصيلا للمسألة أقول متى كان التعليم في تونس متقدّما ومتطوّرا في مناهجه وآليّاته ومؤسّساته.. كي نحكم اليوم بتراجعه عن مواقعه ؟ ثمّ ما مدى حياديّة تناول الشأن التعليمي في تونس عن التجاذبات السياسيّة والايديولوجيّة في الدّاخل التونسي في بناء أو نفي الأحكام وبخاصّة منذ إصلاح سنة 1991 وإلى الآن؟ وأخيرا، ما مدى حجيّة التقارير الدوليّة التي توضع عن تونس في هذا الشأن؟ وما مدى دقّة مؤشّراتها في ترتيب مردوديّة الدول في شأن التعليم .. كتقرير التنمية البشريّة للعالم العربي وشمال إفريقيا الذي يضعه سنويّا البنك الدولي. وقد وضع النظام التعليمي التونسي سنة 2008 في المرتبة الرّابعة بين 12 دولة عربيّة وفق مؤشّراته وهي: إمكانيّة الحصول على حق التعليم والمساواة في الحصول على التعليم بين الجنسين والكفاءة وجودة التعليم؟ أسئلة
الأستاذ بن رجب أضاف قائلا: «أسئلتي هذه قائمة على تأسيس لملاحظة منهجيّة تتمثّل في عدم دقّة تناول الشأن التعليمي في تونس تحت عناوين من قبيل: الجودة والامتياز.. ولا التخلّف والتراجع والتدنّي.. بل الأكثر دقّة التطوّر والمواكبة.. ومن ذلك المنطلق يستقيم لنا التساؤل عن مدى مواكبة المدرسة التونسيّة للتطوّرات الكونيّة وبنفس القدر تجذير المتعلّم في هويّته ومختلف عناصر محيطه.. وإلى أي مدى استطاعت المدرسة التونسيّة تطويع الأفضل ممّا استوردناه على امتداد عقدين من نماذج ونظم وأدوات وطرق تعليميّة ومشاريع الجودة والامتياز من بعض الدول الأوروبيّة وبخاصّة منها الاسكندنافيّة وكندا ؟ فهل أثمرت تلك التجارب التي استقدمناها تحت مسميات مدرسة الجودة والامتياز تبشيرا بمدرسة الغد؟ وعلى سبيل المثال نتساءل عمّا أنجز إلى حدّ الآن في مدرسنا ومعاهدنا من قاعات التشبيك الإلكتروني؟ وكم وظف منها للتدريس الفعلي لمختلف المواد وخاصّة منها الاجتماعيّة؟ وهل تحسسّنا نتائجها في مستويات أبنائنا؟ وهي جزء من المشروع الكندي الذي استوردناه تحت مسمّى مشروع Tic وقد أنفقت في سبيله أموال طائلة تجهيزا وتكوينا و... و... و...؟ وأتساءل أيضا عن مصير مشروع المؤسّسة وأين فتوحاته في تطوير المؤّسسة الذي بشرونا به ؟؟؟ بصدق لا نكاد نجد لكلّ ذلك في مؤسّساتنا التعليميّة حسّا ولا ركزا».
تقييم اختياراتنا
في السياق نفسه تساءل الأستاذ رضا بن رجب متى سيعاد النظر في نظامنا التوجيهي المعتمد منذ 2004 في المرحلة الثانويّة والذي اختزل المدرسة التونسيّة عمليّا في شعبتين وبالكاد ثلاث وهما شعبة الرّياضيات وشعبة العلوم التجريبيّة وفرّغ الاهتمام بما عداها بطريقة أو بأخرى وهمّش بقيّة مسالك التوجيه كشعبة الآداب، وشعبة الاقتصاد والتصرّف، وحدّث ولا حرج عن شعبة علوم الإعلاميّة؟.
وأضاف: «يبدو أنّه بات من المتأكّد تقييم اختياراتنا التربويّة بعمق ودقّة بعيدا عن التجاذبات السياسيّة والايديولوجيّة التي يريد البعض من خلالها توظيف المدرسة التونسيّة لتجذير أجنداته في عقول الناشئة وتجهيلها بعناصر هويّتها الوطنيّة.. ومن جهة أخرى تحرير اختياراتنا من ضغوط المؤسّسات العالميّة بشقيها السياسي والمالي التي تريد استبدال العقل المفكّر ب «العقل الأداتي» بدعوى الانخراط في ركب العالميّة والكونيّة بمضامينها الاقتصاديّة وحتّى القيمية ونحن نرى آثاره على مستويات بناتنا وأبنائنا التلاميذ حيث فرّغوا من الاهتمام من مواد العلوم الاجتماعيّة واللغويّة وخاصّة منها اللغة الأمّ «العربيّة» وتغوّل المواد العلميّة على مجمل العمليّة التعليميّة...».
تقادم المناهج
تدنّي المستوى التعليمي للتلاميذ والطلبة اليوم شخّصه المربّي جلال بوشريط من خلال التطرق للنمط البيداغوجي القائم في مؤسساتنا التربوية ورهانات الدولة منذ عقود.وواصل المربّي بوشريط قائلا إن هناك معضلة بيداغوجية.تتجسّد في حشو البرامج بكمّ كبير من المواد الضخمة دون التمييز بين ما هو جوهري وما هو تكميلي.
فاللغات والرياضيات تعالج على قدم المساواة مع المواد التكميلية كالتربيات والتاريخ والجغرافيا مما يجبر التلاميذ على الحفظ العقيم دون فهم أو تمحيص، وهذا يؤدي في معظم الحالات الى تفوّق تلميذ بالأعداد المرموقة في المواد التكميلية (تربيات) على تلميذ آخر يتقن احسن منه بكثير المواد الجوهرية (لغات حساب) وهذه الطريقة الجمعية تجعل الضعف يتراكم فينتج عن ذلك الرسوب فالانقطاع عن الدراسة وهو ما يفضي الى تبذير فادح لطاقات البلاد المادية والبشرية وتفشي ظاهرة الغش والمراوغة والتواكل واستمرار التباين بين الفئات الاجتماعية (سياسة الانتقاء).
كما أن هناك معضلة تنظيمية فاحتكار الادارة المركزية للقرار وطريقة التدريس والتقييم التي تجعل المدرّس مطبّقا للمناشير والأدلّة البيداغوجية بصورة ميكانيكية وكذلك المسؤول الاداري (ادارة مدرسة ادارة معهد...) فهو يطبّق المناشير الادارية والمالية والمذكرات بصفة آلية. فلا اهتمام بالخصوصية والمحلية، أي تنظيم أساسه مركزية مجحفة في التصرّف والتسيير دون تعبئة القوى البشرية الفعّالة.
وخلاصة ما سبق ظهرت معضلة بيداغوجية تتجسّد في نمط بيداغوجي قائم على الكم ومعضلة تنظيمية ترتكز على المركزية المجحفة والقرار السياسي.وتزداد الحالة سوءا في التعليم العالي وتتجلى في تراجع فادح لمستوى الطلبة اللغوي فلم يعد الطالب يعوّل على أخذ مذكّرات الدروس بنفسه بل يعمل على الحضور للاستاذ الجامعي الذي بدوره يعتمد على الإملاء السردية الغامضة والعقيمة في مدارج عملاقة عوض الالقاء والتوضيح والنتيجة إهدار الوقت وتدهور المستوى المعرفي لعامة الطلبة وعدم التمكّن من أصول اللغة (عدم بناء أو تحرير لمقال) وفقدان الطالب القدرة على التصرّف في زاد المعرفة المتوفر لديه واعتماده على سرد المقاطع دون فهم.
ولستر هذا الفشل عملت سلطة الاشراف على التقطيع السنوي المدرّس في جل الاختصاصات الى جزئيات سداسية واكثار عدد المواد، كما ضاعفت الامتحانات: اجراء امتحان كتابي لكل المواد مرّتين في السنة والحال ان الامتحانات كانت تجرى فقط في المواد الجوهرية ومرّة واحدة في السنة.كما أن تقييم الطالب يعتمد على الطريقة الجمعية لعشرات الاعداد الكتابية دون التمييز بين ما هو جوهري وما هو تكميلي، وهذا يؤدّي الى ارتفاع نسبة النجاح لكن بضعف معرفي فادح لأن الطالب يخصّص وقته للحفظ عوض الدراسة والاستاذ الجامعي يخصّص وقته للحراسة والاصلاح.
مستوى هزيل
المربي جلال بوشريط خلُص بتحليله الى بروز مفارقة تتمثل في ظهور نموذج حامل الشهادة العليا لاجازة بامتياز في حين مستواه في المواد الجوهرية هزيل للغاية لفقدانه معرفة الفعل وهذا يعود أيضا الى التوجيه القسري للطالب الذي يفضي الى طالب معرفته ضعيفة وارهاق كاهل الدولة دون نتيجة ايجابية وارهاق كاهل العائلة بنفقات هائلة في النقل والأكل والمبيت. كما أن مركزية القرار (وزارة التعليم العالي) اضافة الى بيروقراطية الجامعات (رئيس الجامعة) عملت على تهميش الهياكل هيكل المعهد هيكل الكلية المجلس العلمي رئيس القسم فأصبح مسؤول الهيكل منزويا مستقيلا وعليه أن يطبق القرار.
كما لاحظ محدثنا أن مكانة بعض التعلمات في النظام ا لتربوي التونسي ضعيفة والمقصود المواد الجوهرية فبعض المضامين تقادمت ولم تعد صالحة أيضا ضعف اندماج المواد وانفصالها وغياب حريّة التصرّف في برمجة الدروس وانعدام حرية المنهج.هذا ما أنتج ضعفا في المستوى حسب المعايير الدولية، وقد تجلّى ذلك في تقييم TIMSS، الأولمبياد الرياضي الذي يتناول التعلمات الأساسية رياضيات، علوم والذي شاركت فيه 38 دولة وكانت رتبة تونس 29 من 38 في الرياضيات و34 من 38 في العلوم.
هذا الفشل ناتج عن كون البرامج في نظامنا التربوي في الرياضيات لم تتعرّض الى عدد من المفاهيم والمواد الرياضية التي تدرّس في معظم البلدان المشاركة كما أن التوقيت المخصص للعلوم عندنا يمثل 5٪ من جملة التوقيت المخصّص لجل المواد بينما على المستوى الدولي 12٪.
لهذا نحتاج الى اجراءات عاجلة لوضع المتعلّم في قلب العملية التعليمية وفي محور النظام التربوي اجراءات لابد منها: اجراءات بيداغوجية (التعلم ككل) اجراءات هيكلية (تنظيم مراحل التعليم المسالك التوجيه) اجراءات تنظيمية (تنظيم الزمن المدرسي الحياة المدرسية). فالبرامج تحتاج الى مراجعة جذرية إما لنقص واضح في المفاهيم وعدم مواكبة المستجدات العالمية أو لاخطاء مقصودة قصد التضليل وطمس الحقائق (كالحقيقة التاريخية في مادة التاريخ) والمناهج تكبّل المدرّس ولا تمكّنه من المبادرة، والوسائل تقادمت وبعضها لم يعد صالحا وبعضها فقد قيمته بفعل منظومة المعلوماتية والعمل بالطباعة.