تمثل رأس السنة الهجرية في مختلف الجهات التونسية مناسبة للاحتفال بعادات الأجداد، فمن بنزرت الى صفاقس ومن باجة الى مدنين والقصرين وسوسة ومختلف المدن والجهات الأخرى تلتقي العائلات في طبخ أكلات معينة وتختلف في أخرى. «الشروق» حاولت من خلال بعض مراسليها (فؤاد المحمدي ببنزرت وراشد عور من صفاقس وعلي بن عمر من سوسة) التعرّف على عادات التونسيين في مثل هذه المناسبة. رّات البيوت في مدنين يعمدن ليلة رأس السنة الهجرية الى طبخ الكسكسي بلحم الرأس أو بالقدّيد ليحرصن في الغد على تحضير الملوخية وهي أكلة يندر طبخها في سائر الأيام لكنها تحضر بصفة ملحوظة هذا اليوم تبرّكا ربّما بلونها الأخضر لعل هذه السنة الهجرية الجديدة تكون كذلك وتسعى العائلات المتصاهرة الى زيارة بعضهم البعض ويجد الخطيب نفسه مجبرا على تخصيص جانب من دخله لشراء الهدايا لخطيبته وتنقلب مثل هذه المناسبة الدينية في وجه من وجوهها الى المحافظة على عادات الأجداد. بعيدا عن مدنين وبالتحديد في باجة يحضر المقفول ليطبخ فيه الكسكسي بالقديد ليلة رأس السنة الهجرية والمقفول هنا يرمز به الى أنهم أقفلوا السنة وتوديعها بلا رجعة بينما يحرص الأهالي في اليوم الأول على تحضير الملوخية وحمل البعض منها للجيران ترجمانا للتضامن والتكافل. بُرغل وعصبان يحتفل البنزرتيون بطريقتهم الخاصة على مرّ السنين وقد توارثوا عادات وتقاليد بقيت صامدة الى الآن رغم تطوّر الحياة في هذه الربوع، فقد تعوّد أهالي مدينة بنزرت بالاحتفال بهذه المناسبة قبل حلولها بيومين حيث تحرص العائلات على طهو الكسكسي بالعصبان الجاف ويعبر عنه الأهالي «بالعصبان الشائح» ليأتي دور الملوخية في الغد ومنهم من يستعمل فيها اللّحم أو «الهرْماش». وفي يوم رأس السنة يتمسّك الجميع بإعداد المرقاز المشوي والبيض المسلوق أما الغداء فهو برغل بالقدّيد والمراز والبرغل نوع يشبه الكسكسي يتمّ اعداده بطريقة تقليدية. أما الحلقات النسائية فترتكز على زيارة الجوامع أو الزوايا ولو أن الحلقات الفنية الموسيقية بالزوايا مثل زاوية المنوبية أو المسطاري انقرضت. خطوبة غير بعيد عن بنزرت وبالتحديد في الساحل تتجلّى مظاهر الاحتفالات برأس السنة الهجرية بعقد حفلات عقد القران والخطوبة وتقديم الهدايا للفتاة المخطوبة من قبل عائلة الخطيب وهو ما يُسمّى (الموسم) ان من المعروف في الجهة أن تزور عائلة الخطيب عائلة الفتاة المخطوبة (مثل ما يحدث في عيد الفطر أيضا) إضافة الى هذا فإن رأس السنة الهجرية مناسبة مقترنة بأكلات شعبية كالكسكسي بالقديد والفول والبيض المسلوق . وبما أن رأس السنة الهجرية قريب من عيد الاضحى فإن كل أسرة تعد القديد لهذه المناسبة ولقد توارثت نساء الساحل كيفية إعداد القديد عبر الأجيال. الملوخية تسجل أيضا حضورها وقد أكد العديد من شيوخ الجهة أن ملوخية رأس العام يُرجى من خضرتها أن يكون العام الجديد أخضر. والملوخية لم تكن من الأكلات المتداولة في جهة الساحل قبل عقود قليلة إلا أن كثرة انتقال العائلات وانتفاء المسافات جعل مثل هذه الأكلة تسجل حضورها في أغلب البيوت التونسية. ما حكاية العصيدة البيضاء في صفاقس؟ على غرار بقية المدن يحرص أهالي صفاقس على الاحتفال برأس السنة الهجرية وتتدعم خاصة الزيارات العائلية التي عادة ما يتمّ فيها الاتفاق أو التشاور حول الخطبة أو الزواج لأن في خيال بعض العائلات ما يفيد أن الاقتران المتزامن مع بداية السنة الهجرية يكون طالع خير. بعيدا عن الزيارات تتهيأ العائلة بصفاقس لطبخ الملوخية استنادا الى لونها الأخضر الذي يُبشر بسنة خضراء ملؤها التفاؤل وإلى جانب هذا تطبخ العصيدة العربي نظرا لبياضها الذي يحيل بدوره الى الاستبشار بسنة جديدة. من العادات التي اندثرت ولم تعد موجودة سوى ببعض الأرياف ظاهرة ترك البيض تحت «ميزاب الماء» ليلة كاملة على أن يُطبخ في الغد لما في الماء من إحالة على النّماء والعيش الكريم. هكذا تبدو عاداتنا وتقاليدنا على اختلافها حبلى بالرموز والمعاني لكن هل تستطيع أن تصمد إزاء ما تسهم فيه برامج وسائل الاتصال بغثّها وسمينها من مضامين تقتل هذه الخصوصيات؟