بقلم : عبد الله أيت حسين الحياة مدرسة عمومية مفتوحة في وجه كل إنسان، التعلم فيها إجباري، فمنذ اللحظة الأولى التي نغادر فيها بطون أمهاتنا نكون قد سجلنا أنفسنا في هذه المدرسة بالبكاء والصراخ، لأننا لم نتعلم بعد وسيلة أخرى نعبر بها عن خوفنا مما ينتظرنا في فصول هذه المدرسة. تستمر الدراسة في الحياة إلى أن نتوج جميعا بالشهادة التي نكرهها بشدة ولا نتمنى الحصول عليها أبدا، وكلما طال بقاؤنا داخل أسوار مدرسة الحياة تتحقق أغلى أمانينا، فتلك الشهادة ليست شيئا آخر سوى شهادة الوفاة. لا تحتاج في مدرسة الحياة إلى أقلام أو دفاتر أو بذلة رسمية، الأشكال والألوان والأجناس والمظاهر والأعمار لا قيمة لها هنا، الطفل الصغير والشاب واليافع والشيخ الهرم، الرجل كما المرأة، فاقد الرجل والعينين، المقعد في كرسيه والسوي وغير السوي، كلنا ندرس في مدرسة الحياة ونتعلم منها. في مدرسة الحياة، المناهج والدروس الملقنة لا تتغير ولا تتبدل، لا أساتذة فأنت أستاذ نفسك، ولو استحدثت وسائل جديدة ومتطورة تيسر على المتلقي استيعاب الدروس، إلا أن الدروس هي نفسها لم تتغير، سبقنا إليها آباؤنا وأجدادنا وجاء دورنا نحن وستأتي بعدنا دفعة أخرى إلى أن يأمر مسير شؤون المدرسة بإغلاقها وتعليق التعليم بها. ليس كل من يدرس في مدرسة الحياة ينجح، لأن قلة منا فقط من يفكرون لما بعد التخرج ويأملون الحصول على درجة رفيعة بعد نيل شهادة الوفاة، قد تجد الكثيرين يعملون ويجدون ويجتهدون في التعلم، لكنهم لا يفكرون في مستقبلهم الأبدي ولا يلقون بالا للشهادة التي ستعطى لهم في آخر العمر، لذلك فإنهم يندمون بعد فوات الأوان. الطفولة شبيهة بالتعليم الأولي الذي نتلقى خلاله ضروريات ومفاتيح التعلم الأولى، دروس كبيرة وعظيمة نتعلمها في هذه المرحلة، ورغم أننا لا نفهمها ولا نستوعبها إلا أننا نحتفظ بها وتبقى مخزنة في منطقة من عقلنا يستحيل أن تتعرض فيها للتلف والنسيان، فكل ما يترسخ في لاوعينا وعقلنا الباطن قي مرحلة التعليم الأولي يؤثر بشكل كبير على تعليمنا فيما بعد وعلى قدرتنا على التأقلم مع الأوضاع والدروس الجديدة. في مرحلة المراهقة تزداد الأمور تعقيدا في المدرسة، فمكتسبات الطفولة تبدأ في الاشتغال وتعمل عملها فينا والأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة شافية تتقاطر على عقولنا بغزارة، كل شيء حولنا وبداخلنا يشكل لغزا محيرا لابد لنا من فكه. في مرحلة المراهقة، نتعلم أولى الدروس التطبيقية في الحياة ونكون كطالب الفيزياء أو الكيمياء لا يستطيع الاستغناء عن المختبر وإجراء التجارب والاختبارات للتأكد من صحة فرضياته وسلامتها، ويكبر في نفوسنا حب التعلم وعطشنا للمعرفة لا يرويه غير التمرد والمغامرة والطيش والتهور، وسائلنا لإثبات الذات لا تفرق بين الخطأ والصواب، فعقولنا لم تقطع إلى حد الآن أشواطا كبيرة في النضج، فهي في هذه المرحلة تبدد كل طاقتها لغاية واحدة، هي إيجاد الطريقة الصحيحة والفعالة للتعامل مع كل جديد في دروس الحياة واستيعابها، فلا أحد منا في مدرسة الحياة يعلم شيئا عن الدروس والامتحانات التي ستقابله وحتى وان كنا نملك نماذج عن دروس وامتحانات من سبقونا إلا أن الاستعداد القبلي بناءا عليها لا يحسم في أمر نجاحنا أو فشلنا. لذلك لا بد لكل واحد منا في مدرسة الحياة من آلية ومنهجية يستعين بها في حل امتحانات الحياة والتعامل مع مشاكلها وهواجسها التي لا تنتهي. القليل فقط هم الذين يتمكنون من اجتياز اختبارات المراهقة بنجاح والدخول في مرحلة الشباب بكل ثقة وتبات، هنا تكبر آمالنا وترتفع تطلعاتنا في النجاح في الحياة، وكل أجهزتنا تعمل بنشاط وحماسة زائدة، الكسالى والجبناء وضعاف النفوس والمتشائمون يسهل تمييزهم في مرحلة الشباب عما سواهم لأنهم يختارون الجلوس في المقاعد الخلفية، كالأصنام لا يضرون ولا ينفعون، ومع ذلك علينا تجنبهم وعدم مصاحبتهم. منهم من يفضلون التخلف عن دروس الحياة ويكثرون من الغياب، لا حجة لهم ولا مبرر، وشهادة الطبيب وان تعذروا بها تثبت فقط أنهم فاشلون في الحياة وعاجزون عن المواجهة، لهذا يرضون بالانسحاب ويستسلمون للهزائم النفسية. الناجحون في مرحلة الشباب لا يملكون عصيا سحرية أو حذاء علاء الدين، إنهم أناس تسلحوا بالإرادة والعزيمة واستعملوا طاقاتهم الكامنة في نفوسهم على الوجه الصحيح واستغلوها أحسن استغلال، أهملوا كل شيء يميل إلى السواد في دروسهم وتجاربهم وركزوا جهودهم على الصفحات البيضاء، هم أشخاص مرنوا أنفسهم طيلة دراستهم في الحياة على التقاط الأنفع والنظر دائما في اتجاه النور بدل الظلام، والعطاء بدل الأخذ، اكتسبوا القدرة على التكيف مع مختلف الأوضاع والمرونة في أحلك الظروف. إنهم تعلموا فن الحياة من مدرسة الحياة، فمرحلة الشباب هي المرحلة التي نتعلم فيها هذا الفن. مرحلة الكهولة تشبه إلى حد بعيد الدراسة في الجامعة، كل شيء فينا يفترض أن يكون قد بلغ ذروة نشاطه وحيويته، وسمات النجاح تقاس هنا بقدرة الأشخاص على الاحتكام إلى العقل والتحليل الرشيد والرزين الذي ينم عن الإحاطة بكل جوانب المواضيع المطروحة في امتحانات مدرسة الحياة وعن اطلاع واسع وقوة تحكم كبيرة في مواد الدروس التي مرت بهم في الحياة. في هذه المرحلة تسقط الأقنعة ويظهر الذين كانوا يغشون ويحتالون لكي ينجحوا، كل شيء يطفو على السطح ويبرز بجلاء ووضوح، ولا يبقى على الساحة إلا الأقوياء وعظام النفوس، تراهم كالحديد لا يلينون ولا ينكسرون ولم تزدهم الضربات تلو الضربات إلا صقلا، أما الذين كنا نراهم في مرحلة المراهقة والشباب، أولئك المتكبرون والمغرورون والمهووسون بالشهرة والمجد، فقد كانت أجسامهم ومناظرهم تبهرنا وتعجبنا، وهم الآن كهول يتفتتون كما يتفتت الزجاج بضربة حجر واحدة، خارت قواهم ولم يعودوا يستطيعون الاستمرار ولا المواصلة. مرحلة الشيخوخة، اللحظة الأخيرة في مسيرة التخرج، كل الذين بلغوا هذه المرحلة يكونون قد أعدوا الأطروحة، أطروحة يكون موضوعها: ماذا عملنا في الحياة؟ ستكون مناقشتها مع مدبر شؤون الحياة بعد أن يتسلموا شواهد التخرج التي لا تتحدد ميزاتها ولا تظهر نتائجها حتى يناقش كل واحد أطروحته، الذين كانوا يتفلسفون قبل هذا ويضحكون ويستمتعون في صفوف مدرسة الحياة ويرفضون الاستماع لنداء العقل وما تقوله الفطرة لهم، صاروا الآن، وقد أقعدهم المرض والشيب وضعف القوة ووهن العظام، يسألون أنفسهم ذلك السؤال الكبير، ليس بعقل المراهق والمتعلم المبتدأ في الحياة، ولكن يسألون هذا السؤال بعقل الشيخ والأكاديمي الذي خبر دروس الحياة وتمكن منها، يسألون أنفسهم: ماذا ينتظرنا بعد الحياة؟ لا يعقل أن ندخل مدرسة الحياة بغير إرادتنا ونغادرها بغير إرادتنا ونتعلم فيها بإرادتنا دون أن يكون وراء ذلك غاية أو هدف؟! هؤلاء متروكون لحيرتهم وهواجسهم، وهناك آخرون وصلوا إلى هذه المرحلة مطمئنة أنفسهم، فقد وجدوا الإجابة عن ذلك السؤال منذ زمن، وبمقتضى تلك الإجابة كانوا يعملون ويقطعون مراحل دراستهم في الحياة، لا يتهيبون حضور حفل التخرج وينتظرون بشوق وخوف طبيعي مناقشة أطروحتهم للتعرف على مصيرهم الأبدي. الحياة مدرسة أنشأها الذي أنشأنا وخلقنا من عدم بعد أن لم نكن شيئا مذكورا، أنشأها وزودها بقوانين وسنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، تسري علينا كما تسري على ما عدانا من مخلوقات هذا الكون الفسيح الكسيح. نتعلم في الحياة ونتقلب في أرجائها، نستعين بالعلم لنفهمها ونتحكم فيها، ونلوذ بالفرار إلى أرواحنا ونفوسنا لنطرد همومها وأحزانها وكابتها، نفعل كل ما في استطاعتنا وما توفر لدينا من سبل لنحيا فيها سعداء، إلا أننا مع كل ما خصنا الله به من قوة وإرادة نظل عاجزين عن فهم الحياة ونقف حائرين أمام تلقف معانيها.