بدأت الحملة الانتخابيّة لتوجيه التونسيين إلى اختيار أعضاء المجلس الوطنيّ التأسيسيّ و ظهر معها جدل حول تلك الوجوه الجديدة التي خرجت علينا عبر الشاشة الصغيرة تحدّثنا عن برامجها العاجلة و الآجلة. ينتابنا شعور غريب و نحن تسمع خطاب هؤلاء الحافل بالوعود الجميلة و منها ما يثير فينا التساؤل و الحيرة، لأنّنا لا تستطيع أن نصدّقها بسهولة. فشعارات مثل الصحّة للجميع بدون مقابل و مجانية التعليم و إصلاح منظومته و تنمية بغير تفاوت بين الجهات و عدالة و قضاء نزيه و مساواة حقيقيّة بين الرجال و النساء.. كلّها أوتار عزف عليها النظام السابق و صدّقها بعضنا، و عمل من كان في خدمة السلطان من الصحفيّين و الموالين المرتزقة على أن يجعلوا الشعب التونسيّ مستكينا إلى تلك الأوهام لربع قرن من الزمان تعاقبت فيه أجيال و أجيال لتصطدم في النهاية بواقع الخداع الذي وهب المزيد من المناصب للأغنياء و البطالة و الإحباط للفقراء. إنّه الإرث أو الواقع المرير الذي يعيشه التونسيّون اليوم فيجعلهم غير قادرين على تصديق تلك الوعود التي قد لا تكون كاذبة و لكنّ تأسيسها أو تجسيدها على أرض الواقع قد يتعرّض للتعطيل فتتحوّل إلى مشاريع مؤجّلة و أقاويل زائفة وقد لا يحصل الذين رفعوها شعارا لحملتهم على الأصوات الكافية ليصلوا إلى الأروقة الحقيقيّة للسلطة حيث يمكن لهم أن يغيّروا و يحوّلوا وعودهم إلى إنجازات. و مع ذلك سنقول حظّا سعيدا لتلك الوجوه التي اكتشفناها في ما علّق من القوائم و ما بُثّ من التسجيلات المسموعة والمصوّرة و دخلت فجأة عالم السياسة بعد أن كان ملعبها ضيّقا لا يتّسع إلاّ لمحترفيها من حكّامنا القدامى الذين كانوا يديرون شؤوننا دون أن يسائلهم أحد فيزعجهم بنقد على صفحات الجرائد أو يواجههم بفضيحة يشاهدها الشعب على قناته الوطنيّة كما يحدث في البلدان الديمقراطيّة.. كان هؤلاء الساسة المحترفون منزّهين عن الزلل فتمتّعوا بالسلطة المطلقة بعد أن كمّموا أفواه الصحفيين المشاكسين وأحاطوا أنفسهم بعصابات من موظّفي الدولة في سلك الأمن و العدالة فرموْا معارضيهم في السجون المظلمة و خلت لهم الساحات لتجميع الثروات و احتكار المشاريع لأبنائهم و أصهارهم و الأقربين من أسرهم. و هؤلاء ببساطة هم الساسة "الأغنياء" الذين مازالوا يتحرّكون و يحكمون رغم ما ارتكبوه من المفاسد و الجرائم! و لا نرى أنّهم عازمون على التوبة أو الانسحاب. بل تحوّلوا جميعا إلى ثوريّين و فتحت لهم القنوات التلفزيونيّة و الإذاعيّة أبوابها ليحدّثونا عن براءتهم و حسن نواياهم و هم يشرفون على وزارات السيادة في زمن الفساد و الدكتاتوريّة، فمن كان في وزارة الداخليّة زمن بن علي تبرّأ من تهمة التعذيب في سراديبها و نفى علمه بوجود تلك الممارسات في وزارته، و من كان في الخارجيّة اعتبر نفسه موظّفا يقوم بواجبه حين أرسل جوازات السفر إلى الرئيس السابق كما يريد أن يسمّيه، و كان ذلك بعد الرابع عشر من جانفي/يناير! و كلاهما لم يشبع من المناصب و لا يريد أن يصدّق صوت الثورة الذي نادى برحيلهم. على العكس من ذلك، ساعدتهم حكومتا الغنوشي و قايد السبسي على البقاء في مسرح السياسة بأحزاب جديدة رفعت نفس الشعارات التي كانت تسوّقها أجهزة بن علي في الداخل والخارج. نشاهد هؤلاء و هؤلاء فنزداد قناعة أنّ الانتخابات القادمة حُسمت قبل إجرائها بالقوانين التي نظّمتها لقطع الطريق على أحزاب بعينها حتّى لا تحصل على الأغلبيّة فتعيد تشكيل مستقبل التونسيين نحو التغيير المنشود! و حُسمت هذه الانتخابات قبل إجرائها بمحاصرة المجلس التأسيسيّ قبل ولادته بجملة من المراسيم والقواعد والمهامّ الشكليّة التي ستهمّش دوره فيتحوّل إلى هيكل مشابه لهيأة حماية أهداف الثورة التي أضاعت تلك الأهداف في سياق جدلها الأيديولوجي. و حين يبدأ المجلس التأسيسيّ جلساته سيتكرّر ذلك الجدل، بينما تسلّم السلطة الفعليّة للمحترفين الذين مازالوا يمارسونها تحت الأضواء في حكومة قايد السبسي و من معهم من الحكام الفعليين خلف الحجب، و هؤلاء بدؤوا منذ أشهر محادثات و مفاوضات سرّيّة و جهريّة حول حكام تونس الجدد. و آخر هذه المفاوضات ما تمّ مؤخّرا في سويسرا حيث حلّ الرئيس المؤقت فؤاد المبزّع في زيارة عمل، و ما أجري في الولاياتالمتحدة الأمريكيّة بين أوباما و كلينتون وماكين من ناحية و قايد السبسي من ناحية أخرى. و لعلمكم أيّها التونسيّون، أعلنها قايد السبسي صراحة فقال إنّ السياسيين لا يتقاعدون و لا يبتعدون عن الحكم إلاّ حين يموتون! هل فهمتم؟ و في نفس السياق التفاوضيّ،أعلن منذ أيّام أنّ عواصم غربيّة توصّلت إلى وفاق مع الأحزاب التونسيّة ذات الوزن والتأثير لتزكية السيد مصطفى بن جعفر ليكون رئيس التونسيين في المستقبل القريب بعد محادثات سرّيّة، و نُشر ذلك في أكثر الصحف بلغة تذكّرنا من جديد بما كان يحدث من احتقار للتونسيّ الذي يظهر- بمثل تلك الأخبار أو بالونات الاختبار المقرفة- و كأنّه طفل صغير لم يبلغ النضج الذي يخوّل له أن يختار من يحكمه. و هكذا يساعدنا الغرب في امتحان الانتقال الديمقراطيّ شكلا و مضمونا فتأتينا الصناديق الشفافة هديّة من سويسرا بينما تبقى أموالنا هناك، و تأتينا الخيارات من العواصم الغربيّة النافذة حيث لا تعلو أصواتنا على أصواتهم و لا يراد لها ذلك. و لكنّ المؤلم أكثر أنّ بعض المثقّفين – من المرتزقة الجدد- يأخذون في الدفاع عن تلك التوجّهات بدعوى حماية التونسيين من وصول الظلاميين إلى السلطة بل و يشرّع التدخّلات الخارجيّة في شأننا الانتخابيّ انطلاقا من مفهومه الخاصّ للسياسة فهي في رأيه مصالح و حسابات و مكاسب ضيّقة قبل أن تكون مسؤوليّة و أمانة لخدمة الشعب. و على ضوء ما تقدّم، و حتّى لا نبالغ في القنوط أو التشاؤم، يجدر أن نقول إنّ الشعب التونسيّ قادر على تشكيل مستقبله و لو بصفة رمزيّة من خلال من سيصوّت لهم ليدخلوا المجلس التأسيسيّ. و لكنّ دوره لا يجب أن يتوقّف عند ذلك، فعليه أن يستعدّ لمراقبة أكثر فطنة و انتباها لمن سيحكمه فعليّا بعد 23 أكتوبر، لأنّه ليس من المستبعد أن يكون المجلس التأسيسيّ مجرّد عباءة لديمقراطيّة فضفاضة تضمّ بعض الوجوه النزيهة من رجال السياسة الجدد و تُخلع سريعا حتّى لا تتحوّل إلى عبء ثقيل على كاهل من سيباشر السلطة الحقيقيّة. فتلك السلطة قد تعود إلى الساسة القدامى الذين مارسوا الحكم منذ الاستقلال فصار منطقة محرّمة لا ينازعهم فيها "الغرباء". فإذا كنت فطنا أيّها التونسيّ فلن تسمح بعودة الفاسدين من الذين لبسوا اليوم سُترة الثورة و أبقوا تحتها على ثوب الانفراد بالسلطة و الثروة. و بذلك فقط سنتفاءل! عبد الرزاق قيراط