أخذ ''أمين. ح'' دفتره العائلي وتوجه إلى المقاطعة الإدارية لزرالدة التي يقع في إقليمها مسكنه، للاستقصاء عن أوراق الملف المطلوب إحضارها لاستخراج بطاقة التعريف الجديدة. وبمجرد أن وطئت أقدامنا مدخل المبنى، يستقبلك شاب واقف أمام الباب يسألك عن سبب مجيئك، قبل أن يسمح لك بالدخول والجلوس في قاعة الانتظار. لم تمض سوى دقيقة على وجودنا بالدائرة، ليشير بعدها الموظف إلى أمين بالاقتراب من الشباك ويسلمه قائمة بالوثائق المطلوبة لاستكمال إجراءات استخراج بطاقة التعريف وجواز السفر. بعد ثلاث دورات حول مقر بلدية حسين داي ومحيطها، سنحت الفرصة لتوقيف السيارة والتوجه لمقر البلدية.. فحتى في فترة العطلة الصيفية تظل حركة السير في العاصمة مقرفة ومثيرة للتذمر.. بعد استفسار موظفي البلدية، تم إرشادنا إلى شباك التصق فيه نحو 30 شخصا جاؤوا لنفس الغاية التي جاء لأجلها أمين. كانت عقارب الساعة تشير إلى ال11 والربع. وكان بداخل الشباك فتاة في مقتبل العمر مهمتها تسجيل على جهاز كمبيوتر طلبات استخراج شهادة الميلاد الخاصة. لم يكن هناك لا طابور ولا عون لتنظيم الأمور، فقط قوي البنية و''طويل العمر'' من يقترب من تلك الموظفة. في البداية، تصرف أمين بلباقة مع الواقفين في الطابور، لكن صبره سرعان ما نفد وقرر ''الغطس في المعمعة'' دافعا نفسه في صراع من أجل الظفر بفرصة تسجيل طلبه لدى موظفة الشباك. لم يكن شباك شهادة الميلاد الخاصة هذه وحده المزدحم بالمواطنين.. بل إن كل الشبابيك كانت مكتظة عن آخرها بطالبي وثائق الحالة المدنية الأخرى، مثل الإقامة والإيواء والطلاق والوفاة.. لقد تحولت القاعة إلى ما يشبه سوقا شعبية. وهنا بدأت تختفي صور الاستقبال الحار التي بثها التلفزيون وفضائل عصرنة الإدارة واختصار زمن المعاناة في طلب الوثائق، وعاد كل شيء إلى نقطة الصفر، إلى الواقع المعيش وهذا الكابوس الذي لا يريد أن يرحل والجاثم على صدور الجزائريين ''البيروقراطية''. في تلك اللحظة بالذات، تعالت الصراخات، رجل في ال50 من عمره يغمى عليه بسبب طول وقوفه في أحد الطوابير، ليهرع شاب قال إنه أحد معارفه ل''التقاطه من الأرض''. قبل ذلك، كان الرجل يتوسل لموظفة الشباك بأن تعفيه من الوقوف في الطابور لأنه يعاني من مرض القلب ولا يقدر على تحمل الانتظار وسط هذا الزحام. وفي زاوية أخرى من القاعة، اندلع شجار بين عجوز وعون إداري ووصل ''صياحهما'' إلى الخارج. الغريب أن من كان في الداخل، تظاهروا وكأنهم لم يشاهدوا شيئا ولا أحد منهم تدخل لتهدئة الوضع.. سألت أحدهم لماذا تتعرض عجوز لمثل هذا المعاملة من عون يفترض أنه وظف لخدمتها؟ فكان جوابه مجرد تبرير للاستسلام وتفاديا لثورة أعصاب لا تحمد عواقبها، فهو يعتقد أن ''أعوان الإدارة هم المنتصرون دائما في مثل هذه الظروف، والمواطن لا حول له ولا قوة. ودائما ينظر إليه على أنه سبب بلاء الآخرين وسوء التنظيم''.. بعبارة أخرى ''مجرد غاشي أو قطيع من الغنم يساق ولا يسأل عن رأيه إلى أين''. وبعد مضي نصف ساعة من الزمن، جاء دور أمين واقترب من الشباك، كانت الموظفة أنيقة الملبس وحسنة الخلقة لكنها فظة الحديث وحادة النظرة.. تكتب اسم المعني ورقم شهادة ميلاده ثم تدير له شاشة الكمبيوتر ولكافة الجمهور الواقف في الطابور للتأكد من صحة البيانات وخلوها من الأخطاء، وذلك من دون أدنى احترام لشروط الخصوصية والسرية التي تتطلبها الوثائق الرسمية. المضحك المبكي أن الواقف في آخر الطابور وليس بوسعه مشاهدة شاشة الكمبيوتر، بإمكانه سماع الموظفة وهي تصرخ بأعلى صوتها في وجه طالب شهادة الميلاد على شاكلة ما تناهى إلى أسماعنا ''اسم يماك الزهرة؟ واسمك بالفرنسية مكتوب صحيح؟''. التصق أمين مثل كل من سبقه مع الشباك، ووضع دفتره العائلي أمام الموظفة غير أنها لم تعره أدنى اهتمام.. فخاطبها: ''أريد استخراج شهادة الميلاد الخاصة''.. لا حياة لمن تنادي... وما هي إلا ثوان حتى أقفلت جهاز الكمبيوتر وأخذت حقيبة يدها وتوجهت خارجا! فهم أمين أن فترة مداومتها انتهت، وظن مثل الساذج أن عونا إداريا آخر سيعوضها لمعالجة طلبات المواطنين الذين اكتظت بهم مصلحة الحالة المدنية. في لمح البصر ''تبخر'' جميع أعوان الإدارة ولم يبق سوى ''الغاشي'' وحدهم يقاومون مرّ الانتظار.. وبالخشونة التي يعرفها الجميع، طلب أعوان الوقاية والأمن بالبلدية من هؤلاء الخروج والعودة على الساعة الواحدة زوالا. لم يصدق أمين ما شاهد، فقد انقضى نصف نهاره ولم يستخرج أي وثيقة.. وأصيب بنوبة غضب رافضا الخروج. وفيما كان أعوان الأمن يجرونه إلى الخارج، تمسك هو ومجموعة من المواطنين بموقفهم في الوقت الذي فضل الآخرون الانسحاب بعد احتجاج محتشم قابلين بالأمر الواقع. المثير للاستغراب، أنه لما طلب أحد المحتجين مقابلة رئيس مصلحة الحالة المدنية انفجر أحد الأعوان ضاحكا ناصحا إياه بأن ينسى ذلك، فالأمر يعد من المستحيلات إن لم يكن من الأحلام! لم ينقص إلا تبادل اللكمات والصفعات كي يكتمل المشهد ويتحول إلى مشادات حقيقية.. ولولا تدخل أعوان الشرطة لوجد أمين والبقية أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه. ولتبرير تدخلهم، اشتكى عون شرطة من تكرار هذه المشاهد، مؤكدا أنهم سئموا ذلك، كونهم يضطرون لمواجهة غضب المواطنين فيما يختبئ المسؤولون والموظفون في مكاتبهم مثل ال(''...''). ومن أجل طي صفحة شهادة الميلاد الخاصة، قرر أمين التوجه إلى مجلس قضاء الجزائر العاصمة لاستثمار ساعة غداء أعوان البلدية بعد أن دفع ''غرامة مالية'' قدرت ب50 دينارا لشاب من الذين أمموا شوارع وأرصفة المدن الجزائرية، ليقتات من تسوّل تدعمه البلدية وفقا لمبدأ ''كلوا بعضكم بعضا'' وبغطاء تشغيل الشباب. لم يستطع أمين التوقف بجوار المجلس الواقع بحي رويسو، ليس بسبب عدم وفرة أماكن توقف شاغرة.. بل لأن أبوابه موصدة لنفس السبب؛ الغداء. أمام هذا الوضع، قررنا التوجه مغامرين إلى محكمة عبان رمضان في قلب العاصمة، حيث وصلنا في حدود منتصف النهار والنصف. وهنا أيضا تتكرر نفس الصورة؛ حيث كان موظفو المحكمة على موعد مع الغداء بينما على أبوابها تجمع المواطنون ينتظرون فتحها رغم نداءات أعوان الشرطة بالعودة على الواحدة زوالا. وفي انتظار ساعة الفرج، قمنا مضطرين بتناول أكواب من العصير البارد لمواجهة موجة الحر والرطوبة العالية. في تلك الأثناء، كان الناس يتوافدون إلى المحكمة مشكلين طابورا أمام بابها.. وبعد الخضوع للتفتيش من طرف أعوان الأمن، صعدنا إلى الطابق العلوي فوجدنا جميع الشبابيك شبه فارغة باستثناء شباك واحد هو شباك استخراج شهادة الجنسية الذي كان مزدحما بالمواطنين، منهم من جاء لاستلام ''جنسيته'' ومنهم من يستعد لإيداع طلبه. لم يجد أمين من يستفسره عن الوثائق المطلوبة، فاضطر للوقوف في الطابور مرة أخرى إلى غاية أن وصل إلى الشباك بعد حوالي 20 دقيقة، حيث أكد له الموظف أنه مطالب بتقديم شهادة ميلاده الأصلية وأيضا شهادتي ميلاد والده وجده، فرد بأن والده متوفى منذ سنوات بعد أن عايش الثورة ولا تتوفر لديه سوى سنة ميلاده، فكيف بجده الذي عايش الحرب العالمية الأولى!؟ فأخبره الموظف بأنه في هذه الحالة وإذا لم يكن الجد مقيّدا في سجلات الحالة المدنية فعليه إحضار وثيقة يوقع عليها شاهدان يشهدان بأن الجد جزائري الجنسية، وإلا فلا يمكنه الحصول عليها. تراجع أمين خطوات إلى الخلف ثم ما لبث أن غادر المحكمة وهو يفكر كيف يتنقل إلى ولايته الحدودية لاستخراج شهادة ميلاد والده وجده؛ فالإدارة ليست بالعصرنة التي يتحدثون عنها ولا يمكن استخراج هذه الوثيقة إلا من بلدية مسقط رأس المعني. وهنا تذكر جارته، ابنة سفير سابق في إحدى دول أمريكا اللاتينية، عادت مؤخرا من فرنسا بعد إتمامها دراستها الجامعية هناك وتزوجت من ''فريديريك'' الفرنسي، الذي بفضل قانون الجنسية الجديد سيتحصل على الجنسية الجزائرية بصورة آلية. لم يكن فريدريك مجبرا على إثبات أصول والده أو جده مثل أمين، فيما أصبح هذا الأخير مطالبا بإثبات جزائريته! وفي رد فعل غير إرادي، أخذ أمين هاتفه النقال متصلا بزوجته، وسألها قائلا: ''ما رأيك لو نهاجر؟''.