حين كان سكّ العملة والدعاء على المنابر من دلائل قيام الدول في السابق، صارت القنوات الفضائيّة ضمن أدوات أخرى من الدلائل راهنًا، إن لم تكن شهادة الميلاد الأولى. أساسًا في دولنا، عندما تزحف الدبابات وتسير المصفحات إلى مقرّات الإذاعة والتلفزيون لتلغي السابق وتعلن سيطرة اللاّحق وتثبّت شرعه وقيام شرعيته... تلك أيّام نتداولها بين الناس، أو هي أيّام تتداولنا... من ذلك لم يعد خافٍ دور وسائل الإعلام المسموعة والمرئيّة على وجه الخصوص، سواء على مستوى تأسيس «هويّة» الدولة أو في نشر خطابها والترويج لمشروعها... نفهم بذلك وندرك، بل نشهد في جلاء كيف يمكن أن تتحوّل قناة «الجزيرة» مثلا إلى «هويّة» قَطَر الأولى، فلم يعد السؤال عن هذه القناة التي تقوم في هذه الدولة، بل السؤال عن هذه الدولة التي صارت تستند على مستوى «الماهيّة» والوجود إلى دور هذه القناة وما تقدّمه من إعلام تجاوز منذ لحظة الانطلاق الأولى ما تريد بقيّة الدول أو هي قادرة على تقديمه. من الطبيعي أن يرتفع عدد من أغضبتهم هذه القناة، سواء حين جاءت على مستوى الصورة والمحتوى نفيا «وجوديّا» لحالة التكلّس وما نشهد من جمود في قنوات حكوميّة ليس لها من همّ سوى إرضاء مشاهد واحد، أوحد ووحيد [مع التأكيد على بعض التفاوت]. من الطبيعي كذلك بل من المشروع، إن يكن مطلوبًا خصوصًا من العاملين في مجال الإعلام مثلنا أن ننقد هذه القناة ونقف متسلحين بأدوات التشريح العلمي عند ما تقدّمه، لكنّ المؤسف، بل المعيب أن يتردّى البعض إلى مستنقع «الاستدراك الأخلاقي» المرتكز إلى منطق إقطاعي عقيم، حين يريدون إقناع الجميع بأنّ هذه القناة «سيئة أخلاقيا» قياسًا إلى «مرجع» يلتفون حوله دون أن ندرك كنهه ومرتكزه، وبالتالي ضمن المنطق ذاته يكون خطاب «الجزيرة» من السوء ما يجعلنا ضرورة ولزامًا نعرض عنه ونتجنبه، إن لم نعتبره بحكم هذه الفتوى ممّا يوجب الغُسل أو هو «الخروج عن الملّة» والعياذ بالله... يتناسى غربان النعيق، عن غباء أو جهل أو سفاقة أو حمق [ولكلّ أن يدرك مقامه] أنّ حين نفتقد الإجماع حول مرجعيّة أخلاقيّة واحدة يكون علينا الاحتكام إلى الثوابت العلميّة الراسخة، خصوصًا، وأنّ هؤلاء يدّعون أو هم يقدّمون أنفسهم من «الزملاء»، بل من الراسخين في مجال الإعلام، إن لم يكن من «الأنبياء» و«أهل البيت»... ننطلق من حقيقتين حقائق علميّة لا تقبل النقاش ولا تحتمل الجدل: أوّلا: صرنا نعيش عصر الصورة، فما أغفلته وسائل الإعلام لا «وجود له» وبالتالي هو في مقام العدم ثانيا: لا مجال بأيّ صورة كانت لربط «الأخلاق» [مهما كان التعريف] بالفاعليّة والجدوى، فلا يكفي أن يكون هذا الإعلامي أو هذه القناة «على خُلق» [سواء ضمن تعريف عادل إمام أو غيره]، لتحوز النجاح وتعرف الانتشار... ثالثًا: صارت قناة «الجزيرة» الأرفع مقامًا بين مثيلاتها من القنوات الإخباريّة، وبالتالي لا يجوز أن نبخس هذه القناة والعاملين فيها حقّهم وما يملكون من قدرة، وإن كان من حقنا أن نوافقهم أو نخالفهم عند مستوى هذه «الأخلاق». هذه الحقائق العلميّة الثابتة تدعونا من باب المنطق العلمي لا غير أن نطرح على هذه الغربان الأسئلة التالية: أوّلا: لماذا عجزوا وعجزت مؤسساتهم وعجزت دولهم عن إنشاء قناة واحدة تملك القدرة على مزاحمة قناة «الجزيرة» لننعم نحن، أهل الفرجة بالرأي من هذه وبالرأي الآخر من تلك؟ ثانيا: لماذا صاروا إلى عجز إن لم نقل كلمة أخرى تخصّ الرجولة الإعلاميّة عن تفعيل «هذه المرجعيّة الأخلاقيّة الرائعة» وجعلها الوقود أو المحرك لقيام إعلام يجمع الفاعليّة والجدوى بالأخلاق الفاضلة؟ ثالثًا: [وهذا الأهمّ] هل ترى هذه الغربان ذواتها صنوًا لقناة «الجزيرة» ليكون الخيال ولو للحظة بقدرتهم على مقارعة الحجّة بالحجّة والبيان بالبيان. لنصل إلى الأسباب التي تجعلهم [هم ومن فوقهم ومن منعهم] يقومون ولا يقعدون حين يفتح مذيع في «الجزيرة» فمه بنصف كلمة، في حين لا يسمع العالم نعيقهم ولا تلتفت دولة قطر أو قناة «الجزيرة» إليهم سوى من باب حفظ المادّة الإعلاميّة وجعلها خام المواضيع القادمة، ربّما؟؟؟ هذه الثوابت وهذه الأسئلة تستدعي من وزراء الإعلام والاتّصال في الدول التي ترى في نفسها «ضحيّة» هذه القناة، أن تعيد النظر في وجود هذه الغربان المحلية منها أو المستوردة أو اللقيطة على وجه الأخصّ وأن تراجع «مقام» هذا النعيق الممجوج، حين لا يمكن لفاقد الشيء أن يقدّمه... تلك أسئلة صعبة، ترقى، حين نضع المعادلة في نسقها بما فيها من متغيرات وثوابت، إلى إعادة طرح ماهيّة الدولة القطريّة ذاتها، فلا يمكن سوى لأهل الغباء أو الجهل أو السفاقة أو الحمق [ولكلّ أن يدرك مقامه] أن يجعلنا نؤمن ونصدّق بأنّ الجماهير العربيّة والإسلاميّة وفي الشتات والمنافي، ستخرج على بكرة أبيها غدًا صباحًا وقد تناست أزمة الرغيف وغياب الديمقراطية وتردّي مستوى المؤسسات الإعلامية وتراجع الخدمات الصحيّة وتدهور النظام التعليمي وانتشار الشعوذة وشيوع الدعارة الجسديّة [والفكريّة خصوصًا] لتكون [بعد انقطاع قرون] على صوت رجل واحد وقد حمل كلّ قدر ماء وصبّه على «علبة الكبريت» على حدّ قول «الراحل بإذن الله قريبًا» محمّد حسني مبارك، لتذوب هذه «العلبة» وفي رواية أخرى زالت دولة قطر بالكامل من الوجود وقد اختلف المؤرخون في شأنها، فقد قال هذا أنّها أشبه بقوم نوح عليه السلام وقد ذهب آخرون أنهم كمثل قوم لوط والعياذ بالله... نطلب من سموّ أمير دولة قطر حلّ هذه القناة وصرف العاملين فيها، بل قطع ألسنتهم، فقد تراود حاكمًا آخر فكرة انتدابهم، لنفيق بعد أن يتكرّم سموّه من الغد وقد صارت هذه «الجزيرة» كمثل الكابوس الذي نذكر بعضه ولا تدرك تفاصيله... ليسرّ صديق إلى صديقه وقد سحب «نفس شيشة»: حلمت البارحة أن هناك قناة مشاكسة تُدعى الجزيرة، فيردّ الآخر في خبث سائلا نادل المقهى عمّا وضع في التبغ البارحة. يفيق الغربان من حلمهم على صوت «محمّد كريشان» الذي يورد إلينا خبرًا عاجلا من «المحروسة» [ذكاؤكم لا يحتاج إلى التفاصيل]...