استقراء الدور المستقبلي للجيش التونسي يحتّم علينا أن نفهم أولاً موقعه قبل الثورة وكيف تعامل معها ما الدور الذي ستلعبه المؤسسة العسكرية التونسية في فترة ما بعد الثورة وفي المرحلة الانتقالية المفترضة إلى الديموقرطية: ريادي وسيادي بمرجعية عسكرية سياسية، أم مراقب لشؤون البلاد من دون التدخّل في القرارات السياسية؟ شهد المجتمع التونسي خلال أيام الثورة وبعدها صعوداً لدور المؤسسة العسكرية التي كانت شبه غائبة عن الساحة السياسية والاجتماعية قبل ذلك. هذه المؤسسة كانت قد أزعجت الرئيس بورقيبة على أثر محاولة الانقلاب العسكري في عام 1969، التي حُك.م خلالها على العديد من الضباط بالإعدام أو السجن. وقد عمد بورقيبة بعدها إلى تقييد قدرات الجيش ليعطي للحرس الوطني صلاحية مراقبة هذا الأخير في العام 1968، ما أوجد عداوة بين الجهازين. الوقاية خير من علاج : حين انتقل الحكم إلى زين العابدين بن علي، لم يدّخ.ر الرئيس الجديد جهداً لمواصلة سياسات بورقيبة. وفي عهده وقعت أيضاً أحداث 1991 التي اتُّه.مَت فيها مجموعة من الضباط بالإعداد لانقلاب عسكري. لكن وفق عدد من الضباط المتّهمين، كانت هذه تهمة باطلة ولا تعدو كونها جزءاً من سيناريو حاكه بن علي كي يحذّر الضباط من مغبّة التفكير في السلطة السياسية. ولا ننسى هنا أنّ بن علي له خلفية أمنية، وكان مهتمّاً إلى حدّ بعيد بالإقصاء التام للجيش عبر تطبيق وصفة «الوقاية خير من علاج». لكن اليوم، وبعد الثورة، يتبيّن أن الشعب التونسي استفاد من سيناريو واستراتيجية بن علي، وكذلك فعلت المؤسسة العسكرية. فالجيش لم يعد يطمع بالسلطة السياسية، لأنه يفتقر إلى التجربة والتاريخ السياسيين والإيديولوجيا. صحيح أن الشعب نادى، قبل 14 يناير وبعده، بتدخّل المؤسسة العسكرية في السلطة، خاصة أن الفريق أول رشيد عمار قال لزين العابدين بن علي إنه لم ولن يطلق النار على المتظاهرين. لكن الجيش في الواقع لم يطمح إلى تسلم السلطة السياسية. ساعد الجيش في الحفاظ على مؤسسات الدولة حين سقط النظام. وقد تم ذلك على أثر التصريح الذي أدلى به رشيد عمّار (والذي بات يُعرَف ب«تصريح القصبة اثنين») حين وعد بحماية الثورة والبلاد. ثم إن وزارة الدفاع لا تَني تؤكّد مراراً وتكراراً أن هدفها هو تأمين المسار الديموقراطي والمدني وليس فرض سلطة العسكر. اكتفى الجيش بتوفير الأمن وحماية الشعب، وبقيت المؤسسة العسكرية متماسكة. كما نجحت المؤسسة العسكرية في الاحتفاظ بالصدقية والشرعية القانونية، في حين كانت باقي مؤسسات الدولة تفقد الشرعية الشعبية، خاصة منها مؤسسة الأمن الداخلي التي كانت تُعرَف بفسادها وبأنها العصا الغليظة لبن علي التي تسبّبت بقتل المتظاهرين وقمعهم إبّان الثورة وبالطبع قبلها. علاوة على ذلك، كانت المؤسسة القضائية مشكّكا بها هي الأخرى، ويسري الأمر نفسه على الحكومة المؤقتة المشكّك بشرعيتها هي الأخرى لأنها وُل.دَت من رحم النظام السابق. وهكذا تم إسقاط الحكومتين الأولى والثانية، أما الحكومة الحالية برئاسة الباجي قائد السبسي، فلم تف. بوعودها أو مارست العديد من التجاوزات، ففقدت الشرعية الشعبية. الدور المرتقب : نعود الآن إلى التساؤل: ما الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسة العسكرية في المطبخ السياسي التونسي بعد الانتخابات؟ وهل تمتلك المؤسسة العسكرية ما يكفي من النضج السياسي كي تساير الانتقال الديموقراطي؟ ثم، هل سيعود الجيش التونسي إلى ثكنه لاستئناف مهامه التقليدية بعد الإشراف على الانتخابات وتهيئة الأرضية السياسية والاجتماعية والأمنية للبلاد؟ الواقع أنه سيكون للمؤسسة العسكرية دور عسكري لتلعبه الآن وبعد انتخابات المجلس التأسيسي. فسبَقَ لها قبل أيام أن وفّرت الحماية للانتخابات، كما اضطلعت بدور لوجستي فيها عبر توفير كل المعدات والمستلزمات من نقل بري وبحري وجوي. ووفق ما أعلنه ممثل وزارة الدفاع العميد مختار بن النصر، فإن «الجيش التونسي سيعود بعد الانتخابات إلى مراكزه العسكرية ليقوم بأعماله العادية وليعيد النظر في مؤسسته، علماً بأن هذه المؤسسة تعمل على انتداب الكثير من الشباب». وترى المؤسسة العسكرية أنه يجب القبول بنتائج الانتخابات كيفما جاءت، حتى ولو صبّت في مصلحة الإسلاميين. ويشدّد الضباط على أنه لا توجد سيناريوهات محتملة تستند إلى نتائج الانتخابات، وعلى ضرورة إعطاء الشعب التونسي الحرية والمسؤولية لتحديد خياراته من دون أي تدخّل داخلي أو خارجي. التطمينات قوية، لكن هل المجتمع التونسي مطمئن لها؟ ألا يخشى من حدوث سيناريو جزائري في تونس؟ لا يخفي بعض التونسيين مخاوفهم حيال دور المؤسسة العسكرية بعد الانتخابات على صعيد القرارات السياسية. هذا على الرغم من أن هذا الموضوع ليس له صدى عام ولم يُطرَح كمادة نقاش أو جدل لدى شرائح المجتمع عدا أقلية فيه. إضافة إلى ذلك، تعتقد بعض النخب أن ما يُطَمئ.ن هو أن الجيش التونسي ليست له تركيبة تقليدية. فهو غير مبن على أساس ديني أو عرقي أو جهوي أو طائفي، بل يستند إلى معايير أكاديمية، وإلى ذهنية منفتحة على المدارس العالمية هدفها تحويل الجيش إلى أكبر الجيوش العربية ليس في الكم بل في الكيف. كثير من الاختلافات : وعلى أي حال، التجربة الجزائرية لا يمكن أن تتكرر في المجتمع التونسي، فالجيش التونسي يختلف تماماً عن الجيش الجزائري في تركيبته وتكوينه وطريقة عمله. كما أنه ثمة تباينات كثيرة بين المجتمعين وبين التجارب الثورية في كلا البلدين. كذلك تختلف المؤسسة العسكرية التونسية تماماً عن المؤسسات العسكرية العربية. فالجيش في مصر له طابع سياسي منذ الانقلاب العسكري للضباط الأحرار بقيادة عبدالناصر في الخمسينات. فهو يتدخل في الشؤون السياسية للبلاد. كما أن له طابعاً ايديولوجياً بحكم الاقتراب الجغرافي من العدو الإسرائيلي والصراع العربي - الإسرائيلي. وبالتالي، تكوين الجيش المصري يختلف تماماً عن تكوين الجيش التونسي. وهنا يجب أن نلتفت إلى حقيقة أن الشعب المصري هو مَن بدأ الثورة، لكن مَن استلم السلطة السياسية كان الجيش. انطلاقاً من ذلك كله، يمكن أن نتوقّع العودة شبه الكلية للجيش التونسي بعد الانتخابات إلى ثكنه ومراكزه، حيث سيقوم بمراجعة الذات وتدارك ما عاناه من تهميش وإضعاف. أما الحديث عن مستقبل سياسي تونسي بثوب عسكري، فهو ليس ممكناً لا بل هو آخر سيناريو يمكن أن يتخيّله الشعب التونسي، لأنّ السلطة كانت بالفعل في متناول الجيش لكنه لم يستغلّها. ينشر بالترتيب مع نشرة الاصلاح العربي - كارنيغي للسلام الدولي نقلا عن صحيفة القبس الكويتية - عدد 12 نوفمبر 2011