لا شك أن أهمية الانتخابات، أي انتخابات، لا تكمن في حيثياتها ومجرياتها (من تسجيل في القائمات، إلى التصويت والاقتراع، وصولا إلى الاعلان عن النتائج..)، إنما باتت تقاس بتداعياتها على المشهد السياسي، سواء تعلق الامر بالاجندة التي ستطبع المرحلة التي تعقب الانتخابات، أو بالكيفية التي ستتعامل الاحزاب بواسطتها مع مكونات هذا المشهد والفاعلين السياسيين فيه، واستراتيجياتهم لما بعد الانتخابات.. وإذا ما تركنا جانبا تفاصيل النتائج والارقام التي تمخضت عن الانتخابات الاخيرة، وحظ كل حزب من مقاعد مجلس النواب، التي سيرتفع عددها إلى 53 مقعدا، يجدر بنا التساؤل عن ملامح الاجندة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها خطابات المرشحين في الرئاسية كما في التشريعية، وما إذا كانت الساحة الحزبية مرشحة فعلا، وكما يصوّر البعض من المراقبين، إلى تحالفات جديدة خلال السنوات القادمة.. ووفق بعض المقاربات السياسية، فإن المرحلة المقبلة (ما بين موعدين انتخابيين)، ستتحدد انطلاقا مما تضمنته الحملات الانتخابية، وأفق المطلبية السياسية التي اصطبغت بها خطابات الاحزاب في هذه الانتخابات، وترسانة الوعود، وتراكم المقترحات التي تم الاعلان عنها أو التبشير بها من قبل المرشحين، سواء من خلال الحملات الانتخابية، أو من منظور البيانات والمقالات والتصريحات المعلنة، فذلك ما يشكل "مادة" سياسية وفكرية، من المتوقع أن تكون بمثابة "الدليل" الذي سيقود الاحزاب خلال المرحلة المقبلة.. ويمكن حوصلة ملامح المرحلة المرتقبة، في جملة من المحاور.. الاصلاح السياسي كل من تابع خطاب المرشحين والاحزاب، لا بد أنه لاحظ، وإن بصيغ وتعبيرات ونبرات مختلفة ومتفاوتة، وجود هم أساسي لدى الجميع تقريبا، اسمه الملف الاعلامي، حيث تكثفت الدعوة إلى مراجعة قانون الصحافة، وربط حرية الاعلام بأي أجندة للاصلاح السياسي.. ولا شك أن هذا الهمّ يحتاج إلى فتح منابر صلب الاحزاب، وفي مستوى التلفزيون والاذاعات للرأي والرأي الاخر، عبر حوارات يفترض أن تنتهي إلى ما يشبه الوفاق الوطني حول أفق حرية التعبير وسقف الاعلام على محك مصلحة البلاد ومتطلبات المجتمع التونسي واستحقاقات انفتاح البلاد على الغرب وشراكتها مع أوروبا.. كانت الدعوة الى مزيد تطوير المشهد الديمقراطي ضمن أولويات المرشحين، على اختلاف منطلقاتهم والاحزاب التي يصدرون عنها، وهذا يفترض تعديل نصوص قانونية، وتحركات وحوارات تحتضنها المنابر السياسية والاعلامية، من أجل إشراك جميع الاطراف والحساسيات المجتمعية والسياسية في وضع الاسس والافق المطلوبة خلال المرحلة المقبلة.. وينسحب الامر على موضوع الاصلاح السياسي، الذي كان بدوره نقطة التقاء جميع المشاركين في العملية الانتخابية.. صحيح أن الاجندات واللغة والسقف يختلفان من طرف إلى آخر، إلا أن جميع المكونات تكاد تتفق على أن هذا الملف يتموقع في مقدمة أولويات الفاعلين السياسيين.. كشفت الانتخابات الاخيرة، أن مطلب (الحوار الوطني) بين جميع مكونات العائلة التونسية بمختلف تلويناتها السياسية والفكرية والايديولوجية، كانت من بين المطالب الاساسية في الحقل السياسي.. فهناك حاجة وضرورة لفتح قنوات حوار تحتضن الرأي والرأي المخالف، على خلفية الهموم الوطنية وقضايا المجتمع المختلفة، التي تزداد تعقيدا يوما بعد يوم.. وكاد الاحزاب والمرشحون، أن يجمعوا على قيمة سياسية لافتة، وهي الولاء للبلاد، وعدم الرهان على أجندات أجنبية، مهما كان لونها ومصدرها وخلفيتها السياسية.. المحور الاقتصادي.. وفوبيا البطالة.. في هذا الباب بالذات، يسجّل المرء جملة من "التوافقات" بين الفاعلين السياسيين، كرستها الانتخابات الاخيرة، بينها: نوع من "الهوس" بملف البطالة، على النحو الذي يسمح لنا بوصفه ب"فوبيا البطالة".. فالحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي) وكذلك الشأن بالنسبة لبقية الاحزاب السياسية، تناولت موضوع البطالة وحرصت على تقديم معالجة له، كل من موقعه وانطلاقا من خلفيته السياسية.. إنها "فوبيا" مشروعة، لكنها تحتاج إلى "عملية تأطير" تستفيد منها البلاد، بعيدا عن أية اعتبارات سياسوية ضيقة.. انشغال أكثر من فاعل سياسي، بشكل لافت للنظر بالملف الجبائي.. لقد عكست الحملات الانتخابية والبيانات التي رافقتها، وجود قلق يشترك فيه الجميع حول موضوع الضرائب، ولم يتردد البعض في المطالبة ب"العدل الجبائي".. ودون الدخول في تفاصيل ما ورد في الحملات الانتخابية، يحتاج الامر إلى ترجمة هذا العنوان الهام من عناوين المشاغل الوطنية، إلى أجندة خلال المرحلة المقبلة، بما يتيح للحكومة استقطاب مداخيل جديدة، في وقت تبدو بحاجة إلى مجابهة أعباء اجتماعية وتربوية يتوقع أن تتراكم خلال الفترة المقبلة.. بدا موضوع التضامن بين فئات المجتمع، أحد الشواغل التي اهتمت بها الاحزاب وبعض المستقلين على حدّ السواء.. ويبدو أن شعور الجميع بتحديات المرحلة المقبلة، يفسر إلى حدّ بعيد إدراج مسألة التضامن ضمن أكثر من خطاب انتخابي.. لا شك أن وقائع عديدة، برهنت عن وجود ثقافة تضامنية شعبية راسخة، آخرها الفيضانات الاخيرة التي جدّت بالجنوب التونسي.. ويرى مراقبون ومحللون، أن الوقت قد حان ل "مأسسة" هذه الثقافة التضامنية، حتى لا توظف بشكل انتهازي من هذا الطرف أو ذاك، لاسباب سياسية أو حزبية، فهذه الثقافة ضرورية لكي يكون المجتمع التونسي، أكثر قدرة على مواجهة ما قد يطرأ من صعاب خلال المرحلة المقبلة.. مستقبل التحالفات بين الاحزاب يبقى موضوع التحالف بين بعض الاحزاب السياسية، هو السؤال الكبير الذي يرتبط بالمشهد السياسي ما بعد الانتخابات.. ورغم الفشل الذي رافق خطوات التحالف خلال الانتخابات بالذات، أعطى الائتلاف الحاصل بين حركة التجديد والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، وقائمة "الاصلاح والتنمية" (المستقلة)، بصيصا من الامل في إمكانية "صياغة" تحالفات في المرحلة المقبلة.. فلم يعد من الممكن اليوم، أن يتحرك كل حزب بشكل منفرد، فقوة الاحزاب في تضامنها وتوحد بعض مكوناتها على الاقل، ليس فقط للتقليص من قوة الحزب الحاكم، وإنما لخلق موازين قوى أيضا، بإمكانها التأسيس لمعادلة سياسية جديدة في البلاد.. ولعل التجربة المغربية المحاذية لنا، تقوم دليلا على أن العمل الحزبي المنفرد لم يعد ممكنا، وهو ما يفسر لجوء اليسار المغربي على الاقل إلى نحت تحالف لمواجهة القوى السياسية الكبرى في الساحة المغربية.. إن التحالف كما أكدنا أمس جزء من ثقافة سياسية، وليس مجرد تكتيك مرحلي يصحو وينتهي قبل وبعد كل انتخابات، ولذلك من المطروح على أحزابنا، مراجعة هذا الملف بشكل جذري، بعيدا عن الضغوط الانتخابية، أو الحسابات السياسوية الضيقة.. تلك أبرز ملامح المرحلة المقبلة، كما ترجمتها خطابات المرشحين في الانتخابات وحملاتهم وتصريحاتهم.. ويأمل المراقبون أن تكون جزءا من هموم المشهد السياسي خلال السنوات القادمة..