القاضي محمد بن عبد الله بن سالم قيل إن ملكة حب الاطلاع هي ام المعارف كما قيل إن الانسان يبتدئ يساريا ثوريا ثم يضحي وسطيا مهادنا ثم يمسي يمينيا محافظا. لعل في كل من القولين تكمن حقيقة السلوك البشري إن لم نقل على الأقل بعضها. ذلك أنه في القول الأول ينشأ الإنسان منذ ولادته وخروجه من العدم إلى وجه الدنيا يتحسس محيطه وتحكمه ثنائية الدفع نحو طلب اللذة والدفع نحو تجنب مخاطر الواقع (principe de plaisir et principe de réalité). وبتجاوزه سن الستة اشهر يتواصل نمو عقل ابن الانسان بينما يتوقف النمو العقلي لابن القردة عند حدود القدرة على التقليد وينطلق العقل البشري في توسيع مداركه لفهم محيطه والتفاعل معه، ذلك المحيط الذي نجده شديد التأثير على نسق تطور العقل لدى الطفل وتوازنه العاطفي. يقولون إن منظمة حقوق الانسان ارتقت الى مرحلة متقدمة (ما يسمى بالجيل الرابع) والحال ان أبجديات تلك المنظومة تقتضي التوفير لذلك الطفل القاصر المولى عليه محيطا عائليا يضمن الدفء العاطفي من ابوين ملازمين له برباط الزواج القار المقدس. فالطفل الذي يعيش في مجتمعات تخلّت عن قداسة الأسرة ورابطة الزوجية محروم من أبسط حقوقه الأولية ويصيبه شرخ في توازنه التربوي لا يمحوه توفر الأجيال الاربعة من حقوق الإنسان التي تتوفر له وهو كبير. إن الحرص على قداسة حقوق الإنسان البالغ لا يجب ان يكون بالتفريط في حقوق الانسان الطفل. إني أذكر فيما أذكر لما توليت سنة 1987 خطة قاضي ناحية بتونس العاصمة وكانت محكمة الناحية في ذلك التاريخ تشغل الجزء الخلفي المهدم حاليا من بناية وزارة العدل وتشمل أربعة عشر قاضيا منهم خمسة ينظرون في مادة المخالفات والجنح ثمانية في المادة المدنية وقاض واحد في مادة النفقات والتبني وفتح الصناديق الحديدية بالبنوك واحصاء التركات الشاغرة. وكان رئيس محكمة الناحية انذاك القاضي الفاضل السيد صالح بوراس الذي كان لا يفتك يردد قولته «المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف». لقد كنت انا القاضي المكلف بالتبني وكانت جلسة الحكم بالتبني مكتبية بحضور ممثلة عن مركز رعاية الطفولة بمنوبة وكاتبة محكمة. وكان اللقطاء من الأطفال بالمركز المذكور الذين لا يسعفهم الحظ في حصول تبنيهم من طرف العائلات يواصلون نموا اعرجا منقوصا على المستويات الثلاثة: العاطفي والعقلي والفيزيزلوجي (مثل التبول اللاإرادي) وقد يتأخر البعض في القدرة على النطق. إن الأبوة او الأمومة هي التي تولت الرعاية والتربية وليست تلك التي تولت الانجاب الطبيعي فقط وقد حدث ان وقع تبني بنت بعد ان تركتها امها العزباء بالمستشفى ولما كبرت تلك البنت واتضح لها ان أبويا هما بالتبني هربت منهما بحثا عن والدتها الطبيعية وتنقلت من القيروان الى بنزرت ليس بقصد اللجوء اليها كأم وانما للانضمام منها لانها أهملتها. كما حدث أن جاءتني بنت في عمر الزهور (18 سنة) واشتكت من كونها تعرفت على شاب يروم الزواج بها غير ان الاشاعة في الحي بين الأجوار أنها لقيطة وأمها إحدى الجارات سيئة السمعة، ولما اطلعنا على الأرشيف وأخبرناها بكونها مجهولة الأبوين على الاطلاق ارتاحت نفسانيا ولم تخسر خطيبها. ان التبني يطرح عدة اشكالات من بينها كون الطفل المتبني قد يعرف لما يكبر بذلك التبني ويعيره زملاؤه وأصحابه فتسوء أحواله النفسية غير ان بعض الأزواج المتحصلين على حكم في تبني احد الأطفال اللقطاء يتصرفون بحكمة مناسبة لما يعمدون الى التغيب عن معارفهم مدة من الزمن ثم يرجعون بالطفل المتبنى على انه ابنهم الطبيعي فيموت السر معهم ولا يتأذى الطفل. رئيس دائرة بمحكمة التعقيب حاليا