لاشك أن الأحداث السياسية المتسارعة وخصوصا الثورات التي عاشها الوطن العربي منذ أكثر من سنة فرضت على مجتمعاتنا نمط عيش متوترا يمتزج فيه الانتظار بالقلق، ممّا يجعل من الأعمال الكوميدية المتنفس الأكثر طلبا من قبل جماهير المسارح والتلفزيونات.. اليأس والإحباط اللذان يغزوان حياتنا اليومية في ظل واقع اقتصادي غامض ومستقبل سياسي ضبابي، فتحا أمام ممثلي المسرح أبواب التلفزيونات وأصبحت أعمالهم تحتل مساحة هامة من البرمجة وتحديدا في الفضائيات المحلية بحكم الحرية التي أصبح يتمتع بها الإعلام بعد الثورة. هذه الظاهرة برزت أكثر مع فئة شباب المسرح التونسي حيث ظهر عدد منهم في برامج تلفزيونية ساخرة من الواقع الراهن وناقدة بأسلوب كوميدي، مظاهر متداخلة من حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. رصدنا مواقف المسرحيين من العمل الكوميدي التلفزيوني فتبين لنا اختلاف وجهات النظر حول هذه المسألة فالبعض من أهل الفن الرابع يرفضون التوجه للتلفزيون باعتباره يأخذ الكثير من طاقة الممثل ولا يضيف في المقابل لمسيرته الإبداعية ويذهب أغلب هؤلاء حتى إلى وصف سكاتشات التلفزيون بالتجارة في مجال الفن، فيما تعدّ مساحات الكوميديا بالفضائيات من أفضل الخيارات لعدد آخر من المسرحيين حيث تنتشلهم من واقع مرير ومهمّش وغير مستقرّ على مستوى الإنتاج المسرحي والعروض. في هذا السياق يقول الممثل الشاب محمد العربي المازني، الذي يقدم إحدى فقرات منوعة «لاباس»، على قناة التونسية أنه لم يفكر في المال حين اقترحت عليه الفكرة من قبل جعفر القاسمي والقائمين على البرنامج وإنمّا رغب في خوض تجربة مختلفة والتعلم منها مشيرا إلى أن التأثير السلبي الذي يمكن أن يتسبب فيه التلفزيون على آداء المسرحي هو من مسؤوليات الممثل فهو مطالب بالحفاظ على إيقاع معين في عمله.. وأضاف مصدرنا في ذات الإطار قائلا: «شخصيا لم أتخلّ عن أعمالي المسرحية رغم ارتباطاتي بالتلفزيون كما أني أدرس السينما وأؤمن بأن الفنون حين تتلاقى وتتفاعل تطوّر من تجربة المبدع».
للتلفزيون امتيازاته
وكشف الممثل الشاب أن للتلفزيون امتيازاته كذلك فهو يعرف أكثر بمواهب المسرحي لارتفاع نسب المشاهدة مقارنة بنخبوية الفن الرابع كما يصنع قاعدة جماهيرية للممثل تمكنه في المستقبل من التمتع بمشاهدين أوفياء لأعماله على الخشبة إضافة إلى غياب الرقابة بعد الثورة والدخل المادي المحترم. من جهته أشاد الفنان الأمين النهدي ببعض المواهب الصاعدة في الأعمال الكوميدية ومنها محمد العربي المازني، باعتباره ساهم في صقل موهبة هذا الشاب الذي عمل معه كثيرا على الركح ويستعد لتقديمه في عمل من نوع «الوان مان شو» وقال النهدي في الآن ذاته أنه يدعم الخطوة التي اتخذتها بعض التلفزات بإقحام وجوه شابة في مساحات كوميدية من برامجها محذرا هؤلاء المسرحيين اليافعين من استسهال التجربة كما كشف أن النص المتجدد والقضايا الدسمة هي وقودهم للنجاح خصوصا مع حضور التكوين المسرحي المحترف الذي يكفل الآداء المتقن لفقراتهم.
النجاح لا يتمّ بشكل آلي
أمّا الممثل لطفي العبدلي صاحب عرض «الوان مان شو» مايد ان تونيزيا الذي يشهد إقبالا كبيرا من قبل الجمهور فاعتبر أن الظهور في سكاتشات كوميدية بالتلفزيون لا يؤدي بالضرورة للنجاح المسرحي من حيث الحضور الجماهيري لأن العمل المسرحي إن لم يكن ذا مستوى احترافي لا يمكن أن يدافع عن موقعه على الساحة الفنية، كما لا ينفي محدثنا الدافع المادي لقبول أغلب المسرحيين العمل في المنوعات التلفزيونية، ووصفه بأنه من أهم أسباب تأجيلهم لإنتاجاتهم المسرحية. الثنائي فيصل الحضيري وبسام الحمراوي خريجا الفنون الدرامية استطاعا في فترة وجيزة إثر الثورة جلب انتباه كبار المنتجين في تونس بعد عرض عملهما المسرحي «خليني نحلم»، الذي تناقل الشباب فيديوهاته على مواقع «الفايس بوك» و«اليوتوب» ممّا شجع الشابين على مواصلة توجههما الكوميدي الساخر وخوض تجربة التلفزيون في فقرة «نيوز» بمنوعة «لاباس». عن هذه المسألة قال فيصل الحضيري: «حاولنا في تجربتنا التلفزيونية توظيف المسرح في عمل للشاشة، حافظنا خلاله على تقنياتنا وأدائنا الركحي مشيرا إلى أن كتابة النص والبروفات الخاصة بهذه التجربة تستغرق الكثير من الوقت خاصة وأن الجمهور التونسي من أصعب الجماهير وطريقه للملل سريع، لذلك علينا دوما البحث في كل ما هو جديد كما أفادنا الممثل الشاب أن تقنية تقليد الأصوات وطرح مضامين طريفة ومغايرة للموجود على الساحة المسرحية على غرار اللغات واللهجات المستخدمة في العمل الخالية من معانيها ساهمت في تكوين جمهور يتفاعل مع المصطلحات المستخدمة في تجربتهما على غرار كلمة «صالو تاجو». من ناحيته أقرّ زميله بسام الحمراوي بدور آنية الأحداث في إثراء فقرتهما الكوميدية ممّا يمنحها روحا جديدة في كل حلقة مؤكدا أن التلفزيون مجرّد تجربة في مسيرتهما التي تنطلق وتتواصل دوما في المسرح باعتباره الأساس رغم فقره وعدم قدرته على تلبية تطلعات الفنان المادية.
حول النقد والنقد المضاد
وعن انتقاد بعض المسرحيين لخوض زملائهم تجربة كوميديا المنوعات التلفزيونية قال بسام الحمراوي: «أحترم آراءهم وأغلبهم أساتذتي ومن علموني نقد الذات لكني أعتقد في الآن نفسه أني أملك الوعي الكافي لتحديد خياراتي الفنية والاستفادة من هفواتي ونجاحاتي وشخصيا فأنا مقتنع بما أقدمه.. ويضيف: عمري 23 سنة وأمامي الكثير لإنجازه في المسرح ومع ذلك أوجه لهؤلاء سؤالا بسيطا كيف يمكنني تقديم مسرح هادف وجادّ وأنا لا أتمتع بالعيش الكريم؟» الوقوع في فخّ الاستسهال في مجال الهزل أو الانغماس في سحر الشهرة من طرف مسرحي شابّ خاض غمار العمل تحت أضواء التلفزيون، يمكن أن يؤدي بهذا الممثل للخلط في إنتاجاته بين الكوميديا والتهريج إن لم يحافظ بالضرورة على هواجسه الإبداعية واستمرّ في دعم خطواته الركحية. وهي مسألة وجب الاعتراف بأنها صعبة في ظروف بلادنا حيث لا يمكن أن يتواصل الإبداع المسرحي دون تشجيع الدولة خاصة وأننا نشهد عزوف الخواص على الاستثمار في القطاع الثقافي ومازال التعامل بأسلوب بيروقراطي مع العروض الفنية المدعومة متواصلا فقد علمنا مثلا أن أغلب أهل الفن الرابع المشاركين في أيام قرطاج المسرحية في دورتها الأخيرة وإلى اليوم لم يتحصّلوا على مستحقاتهم من العروض المبرمجة فكيف يمكنهم في ظل هذا الوضع التعالي على السكاتشات والمنوعات التلفزيونية. تلك ابرز الملاحظات التي تكاد تتردد على لسان أغلب من حاورناهم وذلك إلى جانب المطالبة بضرورة إيجاد حلول للمشاكل التي يعاني منها قطاع المسرح وخاصة انخفاض فرص الحضور لاسيما لدى الفئات الشابة. هل لنا أن نتخيّل الحياة بدون مسرح مبدع وحرّ، تتفتق فيه المواهب، ويكون مرآة عاكسة لطموحات التونسيين ولآمالهم، بالتوازي مع معالجته للإشكاليات التي تواجههم؟