الجميع يعلم أن أخطبوط الفساد في العهد البائد ومافيا بن علي والطرابلسية كرست تكريسا كاملا انعدام الشفافية في موضوع إسناد الصفقات العمومية للإستحواذ على المشاريع الكبرى في أهم القطاعات وأكثرها مردودية وللتفويت في أملاك الدولة والأراضي الدولية .. والجميع يعلم أيضا أن اللجنة التي كانت تعني بالصفقات العمومية الكبرى كانت تحت الإشراف المباشر لرئاسة الجمهورية ليسهل تطويع العروض وفقا للمصالح الخاصة. واستغل المخلوع وحاشيته إضعافه وهرسلته للمجتمع المدني وغياب الرقابة وتواطؤ المسؤولين للتلاعب بالعديد من الصفقات العمومية التي أبرمت وفوتت وصادق عليها نواب الشعب حينها ،في إخراج ظاهره قانوني وباطنه تجاوزات وتلاعب وفساد. واليوم وبعد زوال مافيات الفساد (أو من المفترض زوالها) يتطلع كثيرون ليصبح التعاطي مع موضوع الصفقات العمومية لا سيما تلك التي تهم قطاعات استراتيجية وحيوية عائداتها بمئات المليارات وتسيل لعاب الطامعين في الداخل والخارج،أن يصبح التعاطي مع هذه المسائل في كنف الوضوح والشفافية ووفق الضوابط القانونية بدءا بإعلانات طلب العروض وصولا إلى اختيار العرض الأجدر والأنسب للمصلحة العامة. لكن هل تغير الحال اليوم؟ تأتي الإجابة على هذا التساؤل من بعض ممثلي المجتمع المدني المهتمين بمسائل الشفافية لتؤكد أن الوضع لم يتغير كثيرا بل وتوجه اتهامات للحكومة الحالية بالسير على نهج الأسلاف في تعاملها مع موضوع الصفقات العمومية. ومن بين هذه الجمعيات نجد الجمعية التونسية للشفافية في الطاقة والمناجم التي يشير رئيسها سفيان الرقيق في حديثه مع "الصباح" إلى أن الحكومة الحالية تواصل مسار عدم الوضوح والشفافية في تعاطيها مع "اللزمات" والصفقات والمسائل التي تهم قطاع الطاقة والمناجم. ويضيف محدثنا أن المعلومات والمعطيات الخاصة بموضوع الطاقة والمناجم تظل تتمتع "بالحصانة" رغم أهمية هذا القطاع الذي يضم أكبر المؤسسات الوطنية في تونس ولها أكبر رقم معاملات على غرار الشركة التونسية لتكرير النفط ستير والشركة التونسية للكهرباء والغاز والمجمع الكيميائي التونسي والمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية والشركة الوطنية لتوزيع البترول وشركة فسفاط قفصة وطوطال وشال وهذه الشركات احتلت سنة 2010 المراتب العشر الأولى في ترتيب أكبر المؤسسات في تونس إذ بلغ حجم رقم معاملاتها (ما يقارب 13 مليار دينار). اتفاقيات غامضة وكمثال على تواصل الغموض وانعدام الشفافية في التعاطي مع الصفقات يشير رئيس الجمعية التونسية للشفافية في الطاقة والمناجم إلى إمضاء الحكومة مؤخرا لمذكرتي تفاهم مع شريك أجنبي لإسناده رزمتي منجم الفسفاط بسراورتان ومصفاة تكرير النفط بالصخيرة "دون أن يتم احترام التشريع الجاري به العمل ودون كراس شروط ولا طلب عروض وبعيدا عن مبادئ المنافسة النزيهة والشفافة"على حد تعبيره. ويضيف محدثنا أن نفس الشريك القطري الذي فاز في عهد بن علي بطلب عروض مصفاة الصخيرة ثم انسحب سنة 2008، يعود ليسترجع اللزمة دون أي توضيحات أو تبريرات رغم أن مصفاة الصخيرة عرفت تقلبات غامضة واتهامات خطيرة لم يتم الكشف عن كافة ملابساتها بكل وضوح للرأي العام. ويعتبر محدثنا أن من فاز بطلب عروض وانسحب لا يخول له قانونيا استرجاع العرض دون المشاركة بالطرق القانونية المتعارف عليها ضمن طلب عروض وفي إطار منافسة نزيهة تراعي العروض المتقدمة الأنسب للأهداف والمصالح الوطنية. "وكان على الحكومة وقبل مفاجأة الجميع بالإعلان عن التوقيع على مذكرة تفاهم مع الشريك القطري أن تحدد كراس شروط وطلب عروض وتقدم كل المعطيات الضرورية بشأن هذه المشاريع الكبرى والمهمة". وتطالب في هذا الصدد جمعية الشفافية في الطاقة والمناجم الحكومة بتمكين دافعي الضرائب من حقهم في الإطلاع عل كل ما يتعلق بمشاريع اللزمات ونشر كل مذكرات التفاهم للعموم.وتحديد سياسة التصرف في قطاع الطاقة بشكل واضح يرفع كل التباس ويوصد نهائيا أبواب التجاوزات والتلاعب بمجال استراتيجي وحيوي للبلاد. فتح ملفات الفساد وفي سياق متصل تطالب الجمعية أيضا بفتح ملفات الفساد في قطاع الطاقة والمناجم وخاصة منها القضايا التي كشفها تقرير اللجنة الوطنية لتقصى الحقائق حول الفساد والرشوة الذي نص في الفقرة السادسة تحت عنوان تجاوزات في قطاع النفط والطاقة على أن"التحريات التي قامت بها اللجنة من خلال الوثائق التي عثرت عليها بمصالح رئاسة الجمهورية بينت وجود شبكة من الضالعين في ممارسات مشبوهة على حساب منشآت عمومية تعمل في ميدان الطاقة بمشاركة أفراد متواجدين بالخارج." ويرى سفيان الرقيق أن فتح هذه الملفات والكشف عن الضالعين في الفساد والتلاعب في الصفقات العمومية في الداخل والخارج مسألة أساسية لإعلان الحكومة الحالية على نواياها للقطع مع الممارسات السابقة وفتح صفحة جديدة عنوانها النزاهة والشفافية. كما أن تواصل غياب الشفافية في التعامل مع الصفقات العمومية وفي مجالات حيوية في الإقتصاد من شأنه أن لا يشجع المستثمرين على القدوم إلى تونس وقد يفتح المجال لبروز متنفذين جدد و"لوبيات" جديدة تستفيد على حساب المصلحة العامة. من جهته يقول سامي الرمادي رئيس الجمعية التونسية للشفافية المالية أنه من الضروري فتح الملفات القديمة وتحديد المسؤوليات بكل دقة لمعرفة مكامن الخلل ولاستخلاص العبر مستقبلا. ويضيف "لكن مواصلة التكتم ذاته بل والتمادي في ابرام مذكرات تفاهم والتفويت في لزمات وأراضى ومنشآت تحت نفس أطر واتفاقيات المخلوع لا تؤشر على نوايا للقطع مع الماضي". التفويت في الأراضي موضوع آخر لا يقل أهمية عن التفويت في اللزمات وهو التفويت في الأراضي الدولية بالدينار الرمزي دون تقديم إيضاحات ومعلومات كافية عن ملابسات هذه الاتفاقيات. ويوضح سامي الرمادي أن بيع أراضي دولية في جهة توزر للقطريين لإقامة مشروع سياحي والذي تم في عهد بن على لم يرافقه طلب عروض والقانون المصادر عليه سابقا من قبل مجلس النواب في 19 جويلية 2010 تضمن فصلا وحيدا يشير إلى التزام الدولة بالاتفاقية مع الشريك القطري دون أي تفاصيل أخرى عن ملابسات الصفقة كذلك التفويت في 12 هكتارا في سوسة في إطار تهيئة محطة الأرتال تم دون الإعلان عن الصفقة وعن طلب العروض ودون أي تفاصيل.. ورغم ذلك تواصل الحكومة الحالية الالتزام بهذه الاتفاقيات ويؤكد في هذا الصدد سامي الرمادي " أنه كان بالإمكان مراجعتها والتدقيق فيها أو إلغاؤها لأنها لا تتماشي مع المصلحة الوطنية ومع السيادة على أراضينا التي يتم التفويت فيها تحت غطاء مشاريع استثمارية ووعود غير واقعية في الكثير من الأحيان على مستوى التشغيل والتنمية". ويقول سامي الرمادي إن بن على أرسى سابقا اللجنة العليا للمشاريع الكبرى ليمرر المشاريع لقطر ودول الخليج على غرار سماء دبي وغيرها ويضفي عليها الصبغة القانونية صلب مجلس النواب وبالتالي تصبح عملية تحيل قانونية"واليوم تتواصل هذه الاتفاقيات بل ويعلن عن اتفاقيات جديدة دون أن تمر بالإجراءات القانونية". كما يبين محدثنا أنه وإذا ما افترضنا جدلا أن بعض هذه العقود المبرمة فيها مصلحة وطنية لماذا لا يتم التعامل معها بكل شفافية بالإعلان عن كل تفاصيلها وحيثياتها. المجتمع المدني بدوره يعتبر كمال العيادي الخبير الدولي في مجال الشفافية ومكافحة الفساد ان كل تفويت وكل ترخيص ولزمة تهم ممتلكات الدولة يتعين أن تتم بكل شفافية.ويعتبر أن الوضع ليس بالشفافية الكافية اليوم بل ربما أسوأ في ظل قلة خبرة المسؤولين الحكوميين الحاليين. وعن دور المجتمع المدني في الضغط على الحكومة لاعتماد الشفافية واحترام التراتيب القانونية يقول كمال العيادي إن المجتمع المدني في تونس اليوم يجازف بتصريحات قد لا تستند في الكثير من الأحيان إلى معطيات دقيقة.وهو يفتقر إلى الآليات والكفاءة والخبرة اللازمة في المتابعة وإرساء مقومات النزاهة والشفافية. ويعتبر محدثنا أنه يتعين على المجتمع المدني تكوين كفاءات في المجال وعلى الحكومة إيجاد آليات للشفافية مع تشريك المجتمع المدني والإعلام في كل عملية تفويت أو ترخيص أو فتح عروض. منى اليحياوي
اللجنة العليا للصفقات العمومية عمياء في عهد بن علي.. بكماء بعد الثورة؟! تجدر الإشارة الى أن "الصباح" اتصلت مرارا وتكرارا عبر الهاتف ومن خلال مراسلة خاصة وجهت للجنة العليا للصفقات العمومية للظفر بموعد أو تصريح من رئيس اللجنة حول عمل هذه اللجنة وتعاطيها مع موضوع اللزمات والصفقات العمومية ولتقديم إيضاحات بشأن الصفقات المبرمة مؤخرا ..وإلى اليوم لم نتلق الإجابة.