لا شكّ أن العنف بكل أشكاله وخاصة منه ذو الطابع السياسي مدان بالمطلق ولا وجود لما يبرر ممارسته وعلى أجهزة الدولة القضائية والتنفيذية أن تكون حازمة وصارمة تجاه كل من يرتكب تلك الحماقة إن كان فردا أو تنظيما أو مجموعات.. غير ان ذلك لا يمنع من ضرورة فهم هذه الظاهرة عبر تشخيصها ودراستها بعمق من جوانب مختلفة حتى نتمكن من السيطرة على أسبابها ومن ثم عزلها لتصبح نادرة جدا في الممارسة السياسية التونسية.. اما قول البعض بان ممارسة العنف السياسي ظاهرة غريبة عن الشعب التونسي المسالم أو أن هذا العنف الذي نعيشه هو وليد النظام الدكتاتوري والاستبدادي الذي عرفته البلاد طيلة عقدين ونيّف من الزمن فهو قول جانب الحقيقة والواقع بل قد يساعد على تكريس العنف ويبرره بدون وعي.. إذ لا يخلو تاريخ شعب من الشعوب، بما في ذلك الشعوب التي وصلت إلى درجة كبيرة من التقدم، من ممارسة العنف السياسي الذي تمارسه الأطراف السياسية فيما بينها (ولا نتحدث عن عنف أقصى اليسار الذي ساد كلا من ايطاليا وألمانيا وفرنسا واليابان في السبعينات من القرن الماضي).. كما تزال، في الوقت الحاضر، بعض من مظاهر العنف السياسي متداولة في أوساط بعض الأحزاب والتنظيمات (أثناء اجتماعاتها) والبرلمانات او بعض المظاهرات والمسيرات.. ناهيك عن العنف الذي يمارسه بعض الأفراد المنتمين إلى المنظمات والجمعيات اليمينية المتطرفة سياسيا او دينيا او الاثنين معا في أوروبا الغربية تحديدا.. وبالرجوع إلى تونس يمكن القول أن العنف السياسي الذي كان مصوّبا تجاه الأجهزة الاستعمارية المادية والبشرية، في تاريخ البلاد كان تواتره محدودا، مقارنة بدول الجوار. فبعد فشل المقاومة التونسية "المسلحة" في التصدي لقوات الاحتلال سنة 1881 وبعد بعض المحاولات غير المنظمة المحدودة هنا أو هناك وفي فترات متباعدة نسبيا (1906 - 1915-1922) او المنظمة (1938 و1952) تبنت الحركة الوطنية التونسية أسلوب النضال السلمي وبذلك تكون تونس على غير ما حدث في الجزائر أين كانت المواجهة منذ البداية عنيفة ضد الاحتلال (1830 إلى 1871) وبعد ان أوقف الجزائريون العنف لمدة طويلة (83 سنة) تم اعتماده مجددا وتحويله الى الوسيلة التي لا بديل عنها لإخراج الاستعمار من الجزائر (1954 - 1962). وهو نفس الأسلوب الذي اعتمدته حركة "الجهاد" في ليبيا التي انطلقت من سنة 1911 ولم تتوقف إلا باستشهاد الشيخ عمر المختار سنة 1931 ولا يعود خيار العنف لطبيعة ثابتة لدى هذه الشعوب (كما تقول بعض النظريات العنصرية) المذكورة بل أساسا لطبيعة الاستعمار الذي ألغى الدولة في كل من الجزائر وليبيا وقضى على أجهزتها وأوقف ومنع كل عوامل ومظاهر الحياة العقلية فيها في حين كان النظام الاستعماري الفرنسي بتونس "أقلّ" عنفا باعتبار أن البلاد تحولت إلى محمية (حسب القانون الدولي؟) الأمر الذي ساعد على وجود ثنائية في الأجهزة والأنظمة بالرغم من شكلية الكثير منها، التي أتاحت للبلاد ان تتطور وتتقدم في المجال التربوي والاجتماعي والمؤسساتي.. لكن ومقابل ذلك لم يخل تاريخ الحركة الوطنية التونسية بدوره من العنف (الداخلي ان صحّ التعبير) الذي بدأت بعض ملامحه تبرز بعد انشقاق الزعيم الحبيب بورقيبة وتأسيسه للحزب الحر الدستوري، الديوان السياسي، (1934) إذ لم يتردد هذا الحزب في ممارسة العنف السياسي الجسدي ضد خصومه مثلما حصل للشيخ عبد العزيز الثعالبي (وبعض مريديه) بعد رجوعه إلى البلاد (1923 - 1937) أو ذاك العنف الذي مورس ضد قيادات جامعة عموم العملة التونسية الثانية (مارس 1937) من قبل الرموز المثقفة من قيادات الحزب الدستوري (صالح بن يوسف والهادي نويرة والمنجي سليم) او في الأربعينات والخمسينات عندما باشر الحزب الدستوري في القيام بعمليات اغتيال ضد بعض التونسيين الذين خالفوه الرأي (محاولة اغتيال شمس الدين العجيمي زعيم حركة الاتحاد والترقي في افريل 1949 او محاولة اغتيال محمد كمال بن عزوز والطيب الغشام والشاذلي القسطلي..) واستمر هذا العنف السياسي سواء ذاك الذي مارسته الدولة والحزب او المعارضة (وان كان اقل بكثير).. كما مارس الحزب الحاكم بعد الاستقلال العنف بكل أشكاله ضد الحركة اليوسفية والزيتونيين والعروبيين وضد الحركة النقابية (1978)، مقابل العنف الذي مارسته مجموعة قفصة ضد السلطة (1980) وعنف المجتمع سنة 1984 (أحداث الخبز) وأحداث العنف المشبوه التي انطلقت منذ سنة 1986 في بعض ولايات البلاد والتي يشتبه في أنها كانت منظمة من قبل أطراف في السلطة ومن خارجها أيضا تحضيرا للانقلاب على بورقيبة.. أما الساحة الطلابية فعرفت، بدورها، ومنذ مؤتمر قربة عنفا مزدوجا عنف السلطة ضدها والعنف بين مختلف التعبيرات الإيديولوجية والسياسية الطلابية وهي ظاهرة لازالت تعرفها هذه الساحة دوريا في الكثير من الكليات والمبيتات والمطاعم الجامعية وهي ظاهرة تتفاقم خاصة بمناسبة الانتخابات الطلابية للمجالس العلمية او النقابية... أما نظام بن عليّ فكان نظاما مُوَلّدا للعنف وليس ممارسا له فقط.. وان كان المنتمون لحزب النهضة من أكثر ضحايا العنف متعدد الأشكال والمضامين فلم تكن بقية الأطراف بمنأى عن ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر.. بل ان العنف السياسي كان سائدا في هياكل الحزب الحاكم وهو ما يتجلى بشكل واضح بمناسبة الانتخابات (الشُّعب واللجنة المركزية والبرلمان..) كما انتشر في بعض الأحزاب السياسية المعارضة (سواء منها المهادن للسلطة او المعارض الشرس) وذلك نتيجة، الاختلاف على المغانم أحيانا أو نتيجة ما تُحدثه العناصر المندسّة في الأحزاب من مشاكل (تبدو سياسية او إيديولوجية) يمارس خلالها العنف اللفظي والبدني وتليها الانشقاقات... اتخذ العنف السياسي، بعد الثورة، أشكالا جديدة بل تحول في بعض الأحيان إلى الأسلوب المفضل لبعض الجماعات.. كما لا يمكن تجاهل العنف الواسع الذي عرفته البلاد والذي اتخذ ظاهريا طابعا اجتماعيا (العشائر والقبائل وأبناء الأحياء والمناطق..) لكنه كان في عمقه عنفا سياسيا بامتياز. وبعد الثورة أيضا أصبح باب السياسة والقول فيها وممارستها، أمرا مُتاحا لكل الناس بدون حواجز وضوابط (أكثر من 140 حزبا) ورغم ايجابية ذلك، فان الدفع باتجاه خيار العنف من تلك الأحزاب أمر وارد باعتبار محدودية الثقافة السياسية للأفراد، الذين أسسوا تلك الأحزاب أو الذين انتموا إليها لأسباب قد لا تكون في الغالب لدوافع سياسية.. وعلى خلفية كل ذلك نعتقد ان النظرة "الطُهرية" من قبل البعض للمجتمع التونسي نظرة غير سليمة فالعنف السياسي ظاهرة قديمة في البلاد وسلوك كان ولا يزال متواترا في "المجتمع السياسي التونسي" كغيره من المجتمعات الإنسانية التي عرفت وتعرف مثل هذه الظاهرة الإنسانية لذلك من الضروري على تلك النخب البحث عميقا في جذور هذه الظاهرة من الناحية التاريخية والاجتماعية والنفسية والثقافية حتى تتمكن من محاصرتها ومعالجتها والتقليص منها.. وربما القضاء عليها.
بقلم: د. عبد اللطيف الحناشي* * أستاذ بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة