أسّس الغرب حضارته، وثبّت تفوّقه، اعتمادا على منظومة متكاملة من القيم والمبادئ، أهمها الحرية والعدالة والديمقرطية التي أعادت للفرد انسانيته، وأطلقت قواه وقُدراته، وفتحت أمامه مجالات الابتكار والابداع. واستفادت الشعوب الاخرى من هذا المدّ الحضاري المبشّر بالانعتاق، وما الثورات العربية المضطرمة حاليا الا من نتائج ذاك الزخم التحرّري الذي اقتحم كافة مناطق المعمورة. لكن بقدر ما تكتسح منظومة القيم الانسانية يوميا مناطق جديدة من العسف فتحرّرها، فإنها تتراجع بشكل مزعج في مواطن انبثاقها وترعرعها، أي في الغرب الذي كان، حتى نهاية القرن الماضي القدوة والمثال. لقد تغير كل شيء تقريبا، بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، ومهما حاول البعض الايهام بأن النفوس قد هدأت، والقلوب قد عادت الى صفائها، والعقول قد استرجعت توازنها، فإن الوقائع والاحداث الكبيرة منها والصغيرة، التلقائية في ظاهرها، والمخطط لها في الباطن، تؤكد خلاف ذلك تماما، فالجرح مفتوح وينزف ثأرا، والغضب فائر ويعمّ الجميع والرغبة في الانتقام قوية وتسكن الافئدة. منذ أيام قليلة طلبت الرئاسة الفرنسية، رسميا، من مديري المعاهد العليا من تمكين الطلبة اليهود الراغبين في دخولها من اجتياز امتحانات القبول خارج المواعيد المقرّرة لأنها تصادف الاحتفال بعيد الفصح اليهودي، في حين يُحرم الفرنسيون من مُعتنقي الديانة الاسلامية من هذا الحق، وحقوق أخرى عديدة. ومنذ يومين فقط اعلنت فرنسا الساركوزية انها بصدد بحث امكانية تعليق عضويتها في اتفاقية «شينڤن» بسبب الهجرة غير الشرعية، اي أنها مستعدة لتقويض الوحدة الأوروبية لصد دخول العرب والمسلمين الى أراضيها. مثالان صارخان لتأكيد تراجع الغرب عن المبادئ المؤسسة لسياساته الانسانية التي بشّر بها بعد الحرب العالمية الثانية. وقد ارتفعت بعض الاصوات في أمريكا وأوروبا متسائلة عن المصير الذي ينتظر الشعوب في الغرب، بعد أن فرّطت في القيم التي صنعت مجدها وتفوّقها. فهل مازالت الحرية قيمة مثلى، والديمقراطية سلوكا حضاريا، والمبادئ الانسانية مرجعية ثابتة؟ وهل مازال القانون الدولي الملجأ الوحيد للاحتكام؟ ثم هل يمكن التباهي بحضارة انحرفت عن مسارها الصحيح، وجعلت من العنصرية ومعاداة الآخر المختلف سلوكا سياسيا ومطلبا شعبيا؟ نحن الآن، ومهما حاولنا التمسّك بالتفاؤل المفرط لتكذيب الوقائع، أمام انقلاب جذري للقناعات والخيارات والمواقف في الغرب، بل نحن في مواجهة «خصم» معلن، نزع كافة أقنعته وقفّازاته، وأسقط الستائر، وأزاح الاردية ليُبرز وجهه الحقيقي، ويعلن عن أهدافه بوضوح تام. ومن هذا المنظور أيضا، فإن مساندة الغرب الاطلسي لبعض الثورات العربية وتغاضيه عن أخرى، وتعامله مع التطوّرات في هذا المجال بمكاييل مختلفة ومتغيّرة، هو ضرب من ضروب تغليب المصلحة التي يسعى الى تأمينها، على المبادئ التي يبشّر بها.