تُؤكّد وقائع التاريخ، في كلّ الأزمنة والأمكنة، ان الثورة إذا ما حادت عن أهدافها الأساسية وانحرفت عن مبادئها، لابدّ أن تجد قوى الثورة المضادة في انتظارها لتشرب كأس دمائها. فقُوى الردّة تترصّد عثرات الثورة ولا تتوانى في الانقضاض على أوّل فرصة تُتاح لها للاطاحة بانجازاتها ومن هذا المنظور فإنّ المسؤولية تقع، دومًا، على عاتق الثورة، المطالبة بصيانة مبادئها وأهدافها، وقطع الطريق أمام المتربّصين بها، لأن الثورة المضادة ليست ردّ فعل فقط، وإنّما هي، كما يؤكّد «ماركوز» إستباق للفعل وعدوان متعمّد مع سبق الاصرار. أما الفرص التي تُوفّرها الثورة لأعدائها فعديدة ومتنوّعة، أهمّها على الإطلاق العنف، الذي يُدنّس الثورة، ويُشوّه مقاصدها، ويُسقط مصداقيتها، ويحدّ من تدفّقها. وقد أكّدنا، في مقالات سابقة، ان العنف، في المنطلق،هو شكل من أشكال «الأضرار الجانبية» التي تحفّ بجميع الثورات دون استثناء، لكن التمادي في ممارسته، والتصعيد في إيقاعاته، وتعمّد توسيع نطاقه، والحرص على إيجاد التعلاّت الواهية لتبريره، هو خيانة للثورة، وتمهيد لعودة قوى الردّة، وبروز حركات الثورة المضادة، فما حدث في بلادنا، خلال الأيام الأخيرة، من مظاهر عنف وفوضى، ينمّ عن ضعف فادح في التكوين السياسي والتنظيمي لدى أغلب الفاعلين على ساحة الفعل الثوري، وذلك بسبب غياب الثقافة الديمقراطيّة، وانعدام حرَفيّة التنظيم، فلا يعقل أن يتعمّد مَنْ صَنع الثورة بتلك التلقائية السلمية المُبهرة، تدمير مكاسبها والاطاحة بها، مستعملا العنف والفوضى والنهب والاعتناء على الأملاك العامة والخاصة. وقد يسأل سائل:هل ان الذين صنعوا الثورة هم أنفسهم الذين حوّلوا شوارع العاصمة وبعض المدن الأخرى إلى ساحات تخريب وترهيب؟ هنا تأتي الاجابة بالنّفي المطلق، لأن الشعب هو الذي صنع الثورة، في حين ان الشارع، في مفهومه الضيّق، هو الذي حاول تدنيسها، والفرق بين الشعب والشارع كبير، بل المقارنة بينهما لا تجوز مُطلقا. ومن المؤسف ان يختزل بعضهم الشعب كله في أنفار من الشارع، أمّا الأخطر في المسألة فعندما يعلو صوت الشارع على صوت الشعب، وقتها تَفْتكُ الثورة المضادة بالأخضر واليابس، يرى «إنغلز» ان التحرّكات الشارعيّة المُنْفَلتة، التي يساءُ توقيتها وتنظيمها وقيادتها تؤدي إلى انكسار الثورة، وهو ما من شأنه أن يفتح المجال على مصراعيه لتنامي قوى الثورة المُضادة، ويدعّم قدرتها على إفشال المشروع الثوري. فباستطاعة الشارع، عندما يكون سلميّا ومنظّما وملتزما بقواعد الممارسة الديمقراطيّة، ان يلعب دور الرّقيب إلى جانب رُقباء آخرين، ولكنّه لايستطيع أن يحلّ محلّ الشعب أو يحتكر صوته ويمارس سلطته. فالشعب هو السيادة والقول الفصل، أمّا الشارع المُنفلت فهو الديكتاتوريّة.