تهاطلت عليّ أسئلة القراء الكرام وغمرتني استفسارات الإخوة والاصدقاء والرفاق، وكلهم يريدون معرفة الأسباب التي جعلتني أربط، جدليا، في مقالي يوم أمس، بين سعي الأستاذ مصطفى الفيلالي في طرح مقارباته الفكرية والسياسية، وخاصة تلك المتعلقة بدستور ما بعد الثورة، وملحمة «برومثيوس» اليونانية. أعترف في البدء، ان هذا المدّ الهائل من التساؤل قد فاجأني، فحوّل وجهة قلمي من موضوع كنت أستعد للخوض فيه، الى عودة، لم أكن قد اخترتها، الى مقال ذهب في اعتقادي اني طويته، لأن الكتابة الصحفية اليومية تخضع لآلية «غلق باب لفتح آخر». فالناس، هذه الأيام، يريدون إشباع رغباتهم المعرفية، فيسألون عن كل شيء ويطلبون إجابة عاجلة وحاسمة عن جميع المسائل. فبرومثيوس، في الأسطورة اليونانية هو ذاك الذي تجرّأ واستولى على النار من جبل الآلهة ليقدمها الى الإنسان، يستضيء بها ويستلهم الأمل من نورانيتها، فهو من هذا المنظور صاحب رسالة، يؤمن بها ويحرص على اشاعة قيمها غير عابئ بالمصاعب والعراقيل مهما كان مأتاها، هو نقيض «سيزيف» العبثي، لأنه لا يحدد هدفا الا بلغه، فكان أول من صدح بقوله «لا» أمام من حاول مصادرة حريته. يقول برومثيوس في المسرحية التي كتبها «أسخيلوس» في نهاية القرن السادس قبل الميلاد: «إنه من دواعي فخري أن أقول ما أفكر فيه». عندما قرأت ما كتبه الاستاذ مصطفى الفيلالي على صفحات جريدة «الصريح»، واستمعت اليه يتحدث في المنتدى الوطني للفكر البورقيبي، تذكرت برومثيوس، ومرّت بخاطري فصول عديدة من ملحمته الخالدة. لن أتحدث عن الجانب الدرامي فيها، ولكن الذي شدّني هو ذاك الإيمان بقدرة الإنسان على تحويل أفكاره الى أهداف يستفيد من بلوغها الجميع، دون كلل أو ملل، وبروح مفحمة بالمثابرة والجُهد ومداومة البذل. فما الذي يدفع الإنسان إلى تكريس حياته في النضال بذاك الحماس الفياض والجرأة الصارخة، إذا لم يكن الاعتقاد العميق بأن إنسانية الإنسان لا تكتمل إلاّ عبر إعلاء صوت الحكمة والتعقّل والكلمة الحرّة. قد لا يكون لمصطفى الفيلالي، حاليا، أعداء أمثال «زيوس» الذي طارد برومثيوس وأراد به شرّا، ولكن ليس من المستبعد ان يكون الأمر مختلفا في ما مضى من الزمان، عندما رفع صوته معارضا الزعيم الحبيب بورقيبة، وغادر الحكومة متدثّرا بأفكاره، التي لم تجد صدى لدى أصحاب القرار في الدولة الحديثة. إن للرجل تجربة طويلة وثرية في الصراعات السياسية وفي الدفاع عن الفكر الحرّ والنزيه، والتشبّث بالرأي الذي يرى فيه الصواب، وهو مازال على العهد مجادلا مرِنا، ومحاورا مقنعا، ومعارضا صارما لا تلين له قناة. فالملاحم الخالدة هي ينابيع أفكار وآراء ومواقف نعود إليها كلما اكتشفنا امتدادا لزخمها الانساني في حياتنا اليومية، أو انبعاثا لملامح أبطالها في الوجوه المحيطة بنا، لذلك نلجأ، أحيانا، الى المقارنة والربط الجدلي بين الأحداث والشخوص، كما فعلنا مع برومثيوس ومصطفى الفيلالي.