أين اختفت منظمة الأعراف؟ «حيتان كبيرة» تستعمل الصغار لإرباك الدولة إدماج متعاطيي التجارة الموازية في المنظم أحد الحلول
بدت منظمة الأعراف شبه غائبة عن تطورات الأحداث في الأيام الأخيرة ولاسيما إرهاصات أخطر ملف فتحته الحكومة الجديدة وهو إيقاف مسلسل جنون الأسعار ووضع حدّ لسطوة بارونات التهريب ومافيا الاحتكار على مسالك التوزيع بشكل ينخر جيب المستهلك والدّولة معا. لقد دخلت الحكومة الجديدة صلب الموضوع رأسا منذ تسلمها لمهامها لتعلن الحرب على غلاء الأسعار والعزم على تفعيل كل الآليات الرقابية والقانونية والهيكلية لبلوغ هذا الهدف الذي يشكل في الواقع قضية وطنية لها أبعادها المعيشية والاقتصادية وحتى الأمنية . بوادر تغيير هذا الخطاب رافقته بوادر تغيير على الميدان تختزل أساسا في العودة القوية لأجهزة الرقابة لتضع يدها على مفاصل التوزيع من الانتاج إلى الأسواق البلدية والأسبوعية مرورا بالطرقات والمخازن المشبوهة وأسواق الجملة كما شرعت الإدارات الجهوية للتجارة في إعداد قرارات غلق المحلات التجارية التي تورّط أصحابها في زيادات مشطة في الأسعار وذلك بهدف الرفع من منسوب الردع بعد سنوات استشرت فيها مظاهر التسيب حتى أن الكثير من التجار أخرجوا من قاموسهم مسألة هامش الربح القانوني؟ بالمحصلة بدأت المعطيات تتراكم لتؤكد أن الحكومة ماضية قدما على درب استعادة المبادرة في قضية مفصلية هي التحكم في الأسعار وتنظيم مسالك التوزيع بعد أن احتكمت تلك المعادلة إلى سطوة المحتكرين والمستكرشين مقابل تراجع حضور وانتباه الدولة وهي ازدواجية بعيدة عن البراءة بمثل تلك المسافة التي تفصلنا عن «السكاك» أو الحزام الجوي الثاني. أخطبوط التوريد العشوائي والواضح أن هذا التوجه ولغة الحسم التي وسمته نشأ عن تشخيص دقيق للأوضاع قبيل تشكل الحكومة الحالية وآل إلى الوعي بأن تحسين أحوال السوق هو مفتاح الاستقرار في خضم شحّ خزائن الدولة من جهة وارتفاع منسوب المطلبية من جهة ثانية. بمعنى آخر إن كبح جماح الأسعار يتطلب بالضرورة تطهير مسالك التوزيع وبالتالي تفكيك «عش الدبابير» الذي تتفرع عنه ممارسات المضاربة والاحتكار وما ينشأ عنهما من اضطراب في التزويد واشتعال للأسعار كما تتحرك داخله أضلع «أخطبوط» التهريب والتوريد العشوائي. ثروات طائلة خارج الرقابة؟ وتبعا لذلك فإن تطهير مسالك التوزيع ستكون له تبعاته الإيجابية الثقيلة على معطى الاستقرار برمته حيث سيعطي الحكومة الحجّة لاحراج الانفلات العمالي الذي يتدثر باكتواء الطبقة الوسطى والضعيفة بنار غلاء المعيشة والتي لا يمكن مجابهتها لا في العام ولا في الخاص بالزيادة في الأجور في ضوء شحّ موارد الدولة الموروث عن زمن «الترويكا». كما سيؤدي تطهير مسالك التوزيع اي فرملة التجارة الموازية التي قفزت من 20 ٪ الى 50 ٪ على مدى الرباعية الأخيرة وأدت بالتالي إلى خنق القطاع المنظم وإضعاف قدرته على خلق الثروة والضغط على الأسعار لجهة ارتباط الكلفة بحجم السوق. ارباك الأمن القومي والأخطر من ذلك أن هذا التوجه سيفضى أيضا إلى وضع ثروات طائلة لا يعلم كيف تتحرك اليوم تحت المجهر وهي معضلة طالما أربكت مرتكزات الأمن القومي من جهة وخزائن الدولة من جهة ثانية وذلك في ضوء الترابط الوثيق بين التهريب والارهاب وتبييض الأموال والتبعات الخطيرة لتكدس الثروات خارج دائرة الرقابة على الموارد الجبائية للدولة ورصيد العملة الصعبة وربما القرار السيادي الوطني في ضوء تزايد الارتهان للخارج والانحراف الحاصل في هيكلة موازنات الدولة ووجهة القروض؟ البلاد في حاجة إلى التضامن بالمحصلة إن استعادة الدولة لزمام المبادرة في تنظيم السوق ورصد تفاعلاته يبدو بمثابة المدخل الطبيعي للاستقرار الذي لن تتزحزح الأوضاع قيد أنملة بدونه وهو ما يقتضي انخراطا واسعا لكل مكونات المجتمع عبر إحياء مصطلح «التضامن». ومثلما يقتضي هذا التحدي ترشيد المطلبية العمالية فإنه يستدعي مؤازرة حقيقية من قطاع الأعمال عبر انخراط واسع في الجهود الرامية إلى كبح جماح الأسعار. والغريب في الأمر أن تجاوب منظمة الأعراف مع تلك الجهود اقتصر إلى حدّ الآن على مبادرات فردية كتلك التي قامت بها غرفة الدواجن بصفاقس وشركة صناعة الاطارات المطاطية فيما كان من الأحرى أن تحث المنظمة كافة الهياكل الراجعة لها بالنظر علي التخفيض في الأسعار لاسيما في قطاع المواد الحرة فبضعة ملاليم في كلّ مادة بإمكانها أن تفضي الى انفراج ملموس على مستوى مؤشر الاسعار. بل يمكن القول إن المساهمة في تهدئة الاسعار تعد من أوكد واجبات منظمة الأعراف في الظرف الراهن خصوصا وأنها المستفيد الأول من تقدم مسار تطهير مسالك التوزيع وتفكيك التجارة الموازية التي طالما أقضت مضجعها. نسبة الفائدة البنكية كما أن أي تراجع في مستوى التضخم سيؤول الى خفض نسبة الفائدة البنكية وبالتالي تسريع عجلة الاستهلاك والاستثمار معا الى جانب إصلاح أحوال خزائن الدولة بما يدعم قدرتها على خفض الضغط الجبائي. كما أن منظمة الأعراف بإمكانها أن تتموقع كرافد أساسي لجملة من الاصلاحات الهيكلية التي تزيد في جاذبية القطاع المنظم وتسحب البساط من تحت أقدام بارونات التوريد العشوائي. بمعنى آخر إن الاستنفار الحاصل لدى اجهزة الرقابة ينبغي أن يرافقه إحياء نفس الإصلاح لاسيما عبر تفكيك الحواجز الجمركية وغير الجمركية التي تعطي الاسبقية للقطاع الموازي وتشخيص الآليات الجبائية والمالية والترتيبية التي تسهل نفاذ متعاطي التجارة الموازية إلى القطاع المنظم . محاولات تشويش بالمحصلة إن حصول «تضامن» حقيقي بين كل مكونات المجتمع مع التحضير المسبق لحاجيات المواسم الاستهلاكية الكبرى بإمكانه أن يفضي إلى نزول نسبة التضخم إلى ما دون 4 ٪ في أعقاب العام الحالي وخفض نصيب التجارة الموازية بما لا يقل عن 10 نقاط من اجمالي النشاط التجاري. والواضح أن التوفق في تحقيق تلك النتائج سيؤدي إلى حصول تغيير في المشهد العام برمته تستعيد معه البلاد قدرتها على مراكمة المكاسب وخلق الثروة والأمل وتفكيك طوابير العاطلين عن العمل. ويبدو جليا أن هذا المسار ستعترضه «مطبات جوية» كثيرة تحتاج الى كثير من الانتباه والجرأة معا ومنها استعمال «الحيتان الكبيرة» للصغار بهدف ارباك جهود الرقابة .. وهو ما قد يكون سبب التشويش الذي ظهر في بعض الأسواق مؤخرا.