قد يُخَيَّل للمكتفي بالعنوان أنّ قياديي ««النهضة»» وأساسا زعيمها الشيخ راشد الغنوشي أدلوا بتصريحات جديدة تُعاكِس سابقاتها القريبة زمنيا (و آخرها الندوة الصحفية للأسبوع الفارط) والتي يصرّون فيها إلحاحا على تمسُّكهم بتلابيب النظام البرلماني و«مَسْكِهِ» مهما كان الثمن لِما فيه مِنْ رائحة فوّاحة ل«مِسْكٍ» شهيّ يُسمّى الأغلبيّة البرلمانية التي سَتُمْسِك بتلابيب الحُكْم بكل أريَحيّة مع انتخاب البرلمان لرئيس لا يُصارع إلاّ طواحين الريح في قصر مليء بالخَدَمِ والحَشَمِ مقابل غياب للقرار السياسي أي بالتونسي لِلْ«خْشَم»!. أيضا ربما قد يعتقد البعض أننا بصدد الإخبار عن حقيقة لا لبس فيها وهذا أيضا ليس صحيحا. لقد بدأنا عمدا باستنتاج للمقال التحليلي وقد نستنتج ما لا يتحقّق على أرضيّة لَزِجَة و«ماكرة» للمشهد السياسي التونسي المفتوح على المجهول ، وما قد يتحقّق ما دام اجتهادا صرفا في تفكيك المُعْلَن والمسكوت عنه في التصريحات خاصة حين تكون صادرة عن القوّة الأولى في البلاد، حركة «النهضة». على أنّ الجامع بين تحليلنا وكلام الغنوشي عن النظام البرلماني حين قال («النهضة» متمسّكة بالنظام البرلماني لكنه ليس «عقيدة «النهضة»» أو «جزءا مِنَ الدّين»)، هو أنّ استنتاجنا أيضا ليس عقيدة أو جزءا من الدّين تماما كتصريحات ««النهضة»» وزعيمها الغنوشي وبقية الأحزاب والزعامات!. ما حَمَلَنا على الاعتقاد بحتميّة قرار «النهضة» التخلّي عن النظام البرلماني الصرف لصالح آخر مُعَدَّل للسلطات يمزج بين قصريْ قرطاج والقصبة هو أنّ هذه النقطة بالذات تُعيدنا حاليا وعلى طريقة «كلب بافلوف» إلى انتاج نفس حالة الترقّب «الإكلينيكيّة» التي عشناها إبان انتظار قرار «النهضة» حول اعتماد الشريعة أو الاحتفاظ بالفصل الأوّل من دستور 1959 وبنفس التكتيكات من طرفيْ النزاع وخاصة من «النهضة»، فهذه الأخيرة مع علمها مسبَقا بعدم قدرتها واستحالة نجاحها في تمرير النظام البرلماني الصرف ، تعمَد إلى استعمال الأسلوب السابق نفسه في حكاية الشريعة: الإيهام بأنها تقدّم تنازلات مؤلِمة لإنجاح التوافق ولكنها في الحقيقة «تَسْتَدِرُّ» التنازلات الحقيقية والمطلوبة من الآخرين (و هذا حق «تكتيكي» وليس تهمة وقد نجحت فيه بامتياز )، إذْ نجحت وقتَها في المحافظة على جناحيْها في «الترويكا» (يا حسرة!) ثم وهذا الأهم استطاعت المحافظة على تماسكها الداخلي وعدم «تمرّد» الشق الراديكالي فيها ، مقابل استبشار وشكر لها والاستدلال بذلك مِن «التكتل» و«المؤتمر» لدى قواعديهما كمؤشّر إيجابي على صحّة دخولهما في ائتلاف حكومي معها ممّا سمح للائتلاف (و خَراجُه ل«النهضة» أساسا) أن يُصبِح وقتها تأسيسيا في أغلب المسائل (بعض الفصول، إقالة النابلي وتعيين العياري وغيرها من المسائل الجانبيّة للجميع والرئيسيّة ل«النهضة»). وعودة سريعة للجان التأسيسي ومُسْوَدّاتِها تؤكّد أنّ «تنازُلَ» «النهضة» عما تقول إنّه «الشريعة» لم يكن إلاّ مقابل تمترسها الجيّد في صياغة فصول الدستور وديباجته حرفا حرفا ويكفي أن نستحضر اللّغط الذي تسببت فيه كلمة «التكامل» عوضا عن المساواة بين المرأة والرجل وكما يقولون مجازيا ، الشيطان يكمن في التفاصيل! و في دسترة النظام السياسي، تعيد «النهضة» التكتيك نفسه مع أنها تسيطر فعليا على كل اللجان «المفاتيح»و المهمّة. هل حقّا «النهضة» متمسّكة بالبرلماني الصرف مع معرفتها مُسْبَقا بعدم قُدرتها تأسيسيا وحزبيّا على نجاح مُخَطَّطِها ؟، لا نعتقد ذك لأنّ الجَلَبَة التي أوْقدتْها الآن نتيجتُها لن تختلف عن موقفها المتمسّك بالفصل الأوّل من الدستور القديم بعد دموع الشريعة. والإيهام بالموقف وتقرير نقيضه في السياسة ليس تهمة بل «كفاءة» في التكتيك. إنّ ظاهر التصريحات وتواترها في فترة زمنية ضيقة هدفه الرفع عمدا في البداية من سقف الطلبات إلى أعلاه ثم وفي مرحلة ثانية النزول به (السقف) قليلا مقابل ارتفاع حجم التنازلات من الطرف الآخر الراغب في نظام مزدوج بما يمكّن «النهضة» من تمرير بعض الصلاحيات المهمّة وحصرها دستوريا في رئاسة الحكومة دون أن تتورط مباشرة في معارضة بعض صلاحيات الرئيس القادم حتى لا تُتَّهم بديباجة نظام سياسي على مقاسها. عياض بن عاشور أكّد أنّ التنازل لا بدّ أن يكون متبادَلا ، ورأيه موضوعي ولكن هذا «التبادل» لن يكون متساويا لأنّ «النهضة» حاليا هي الأقدر على المناورة عكس بقية الكتل النيابية المتشتتة. وقد يدلّ تصريح مقرر الدستور الحبيب خضر على ما ذهبنا إليه ، إذْ أنه بعد طرحه للتواريخ المقترَحة لعرض الدستور يقول حرفيا «الالتجاء إلى الاستفتاء مستبعَد!» و«سي الحبيب» هو ابن «النهضة» ولم يأت من المرّيخ (الجملة المشهورة لقيادييها في حديثهم عن «أبنائنا» السلفيين) بما يفتح الأبواب لحصول توافق يتمناه كل التونسيين. هكذا إذن تبرز ضرورة التوافق كسبب أوّل لتخلّي «النهضة» تدريجيا عن تصريحاتها الأخيرة لأنّ واجب التوافق محمول عليها شعبيا برغبتها وبدونها لأنّ المواطن العادي لا يفرّق بين «النهضة» الكاتبة للدستور وبين «النهضة» الحاكمة وتمسّكها مثلا بموقفها سيراه المواطن بنفس حُكْمِه الآن على أداء الحكومة وهو ما لن يكون في صالحها على الإطلاق. أمّا السبب الثاني والرئيسي لتخلي «النهضة» عن النظام البرلماني الصرف فهو محاولتها تفادي المرور إلى الاستفتاء لأنّ نتائجه ستؤثّر في صورتها كقوّة «لا تُهزَم» وما قد يسبّبه ذلك من تأثير مباشر على حظوظها في الانتخابات التشريعية التي تُعَوّل عليها كثيرا. لنفهم سبب ذلك ، علينا الرجوع إلى انتخابات التأسيسي، الاستحقاق كان في ظاهره دستوريا ولكنه سواء عند السياسيين أو عند العامة كان استحقاق حُكم بامتياز وخاصّة بلغة الرياضيين فائز ومهزوم ، مع أو ضدّ. فالأحزاب قدّمت وعودا اجتماعية بالأساس والناخب حصر اختياره على حزب معيّن دون النظر أصلا في ما يطرحه من صيغة للدستور. وإذا كانت القائمات كثيرة في تلك الانتخابات بما شتّت الأصوات وأدّى إلى فوز نسبي ل«النهضة»، فإنّ الاستفتاء لن يكون على تلك الشاكلة المشتتة بل سيكون الاختيار بين صياغة يتيمة أو صياغتيْن مقترحتيْن للدستور ولكن المواطن سيحافظ على نفس رؤيته الواضحة للأمور، هو سيعتقد ببساطة أنه ذاهب لا للاختيار بين دستوريْن أو للتصويت بنعم أو لا، بل ليصوّت ل«النهضة» أو ضدّها وهنا تكمن اللعبة كاملة!، وهكذا فإنّ الذهاب إلى الاستفتاء سيكون بنفس عقلية انتخابات التأسيسي ليصبح استحقاق حُكْم افتراضي. في هذه الحالة لن تكون الأصوات مشتّتة. تصوّروا نظريا هذه النتيجة مثلا:50,1بالمائة نظام مزدوج و49,9بالمائة نظام برلماني (أو في حالة عرض مشروع وحيد للدستور للتصويت عليه بنعم أو لا)، لن يرسخ في ذهن المواطن إلا شيء واحد لا غير وهو أنّ «النهضة» خسرت في «الانتخابات» لا في الاستفتاء! رغم أنّ نسبة 49,9 بالمائة تُعتبَر قياسية بل ربما قد تحصل «النهضة» في الانتخابات التشريعية على نسبة أقل بكثير من هذه النسبة وتفوز رغم ذلك لتشتت بقية النسب على عشرات الأحزاب. والنفسيّة الشعبية و«الشعبويّة» مهمّة جدا لدى السياسيين وخصوصا لدى «النهضة» الآن، ف«هزيمتها» في الاستفتاء سيحدث انطباعا نفسيا لدى العامّة ينزع عنها «قداستها» وبهرجها الحالييْن قد يكون وقعه كارثيا عليها في الانتخابات التشريعية. والتصويت ب«لا» على مشروع وحيد للدستور أيضا سيكون فهمه شعبيا «لا» ل«النهضة» وكأنها هي الطرف الوحيد المساهم في ديباجة الدستور وتلك ضريبة اختيار الحُكم في مرحلة انتقالية. وهكذا في كل الحالات ، لا نتصوّر أن تقبل «النهضة» وضع نفسها في مثل هذه الوضعية المحرِجة «الواحد ضدّ الكل». وخلاصة القول في مسألة النظام السياسي أن «النهضة» تملك نظريا مفتاح المرور إلى الاستفتاء من عدمه لأن كتلتها النيابية في يدها الثُّلُث المُعَطِّل (المصادقة في التأسيسي على الدستور برمّته يفترض الثلثيْن) ولكن اعتقادنا أنها لن تستعمله بل ستبقى مناورة بهذا الثلث المعطّل حتى تحصل على مزيد من التنازلات التي تراها ضرورية لحاكم القصبة القادم (لثقتها في فوزها في التشريعية القادمة) ليكون في الأخير التوافق المُرْضي لكل الأطراف. وتصريحات قياديي «النهضة» من أنّ الحركة ستقدّم مرشّحها للرئاسة لو تمّ اعتماد الانتخاب الشعبي المباشر لمنصب رئاسة الجمهورية يصبّ في خانة تأكيد ما ذهبنا إليه. ونعيد أنّ استنتاجنا وكما قلنا في المقدّمة ليس عقيدة أو جزءا من الدّين تماما كتصريحات «النهضة» وزعيمها الغنوشي وبقية الأحزاب والزعامات!. ، فلننتظر مفاجآت المشهد السياسي التونسي.