نواصل في الجزء الثاني من هذا الملف نشر المقتطفات التي انتقيناها من العقد الفريد (الجزء السادس) لابن عبد ربه الأطعمة اللطيفة هي التي يتولّد منها دم لطيف، فمنها لباب خبز الحنطة، والحب المقشور ولحم الفراريج، ولحم الدُّراج والطّيهوج والحجل، وفراخ الحجل، وأجنحة الطيور، ومالان لحمه من صغار السمك ولم تكن فيه لزوجة، والقرع، والماش، وما أشبه. وهذا الجنس من الأطعمة نافع لمن ليست له حركة وكانت الحرارة الغريزية في بدنه ضعيفة ولم يأمن أن يتولّد في بدنه كيموس غليظ، أو يتولّد في كبده أو طحاله سدد، أو في صدره، أو في دماغه، أو في شيء من مفاصله من البلغم. الأطعمة اللطيفة في نفسها الملطفة لغيرها هي التي يكون ما يتولّد منها لطيفًا، ويلطّف ما يلقاه من الكيموس اللزج الغليظ في البدن. وهذا الجنس من الأطعمة أربعة أصناف: صنف منها حلو لطيف لما فيه من قوّة الجلاء، مثل: ماء الشعير، والبطيخ، والتين اليابس، والجوز، والعسل والفستق وما يعمل منه من الناطف. وهذا الجنس في منفعته من جنس الأول من الأطعمة اللطيفة، الاّ أنّه أبلغ في تلطيف البدن. والصنف الثاني حار حرّيف: كالحُرف، والثوم، والكراث، والكرفس والكرنب والصّعتر،والنعنع، والرازيانج، والشراب الأصفر اللطيف العتيق الحار. وهذا كلّه نافع لمن احتاج الى فتح السدد التي في الكبد، والطحال، والصدر والدماغ، وتقطيع البلغم وترقيقه. ولا ينبغي لأحد أن يكثر إستعماله، لأنه يرقق الدم أوّلا ويصيره مائيا، فيقل لذلك غذاء البدن ويضعف، ثم انّه يُسخن البدن سخونة مفرطة، فيصير أكثره مرّة صفراء، ثم انّه بعد ذلك اذا تمادى مستعمله في إستعماله حلل لطيف الدم وترك غليظه، فصار أكثره مرّة سوداء، وربّما تولّد من ذلك حجارة في الكلى، ومضرة هذا الصنف أشد ما تكون على من كانت المرّة الصفراء غالبة عليه. والصنف الثالث: يذهب ويلطف بملوحته، كالمُرى ومالان لحمه وقلّ شحمه من السمك إذا ملح، والسلق، وماء الجبن، وكلّ ما جعل فيه من الأطعمة الملح، والمري، والبورق. ومنافع هذا الصنف ومضاره قريبة من منافع الأشياء الحريفة ومضارّها، الاّ أن هذا الصنف في تنقية المعدة والأمعاء وتليين الطبيعة أبلغ. والصنف الرابع: يقطع ويلطف بحموضته، كالخل، والسكنجبين، وحُماض الأترجّ، وماء الرمان الحامض، وكلّ ما يتخذ بها من الأطعمة. وهذا الصنف نافع لمن كانت معدته وسائر بدنه حارًا إذا تولّد فيه بلغم من غلظ ما يتناول من الأغذية ومن كثرتها. الأطعمة الغليظة في نفسها الملطفة لغيرها منها: البصل، والجزر، والفجل، والسلجم، وما أشبه ذلك. فهذه الأطعمة في نفسها غليظة وتلطّف ما تلقي من الشيء الغليظ بما فيها من الحدّة والحرافة، وهي تولد كيموسًا غليظًا، ومتى ما طبخ شيء منها أو شوي ذهب عنه قوّة الحرافة والتقطيع، وبقي جرمه غليظًا رديئًا، وقد يُتناول للمنفعة بتقطيع هذه الأطعمة وتلطيفها، ويسلم من غلظ جرمها، على إحدى ثلاث جهات: إمّا أن تطبخ فتلطف، كالذي يفعل بالبصل، وإمّا أن تعصر أو تطبخ ثم يستعمل ماؤها، وإما أن تؤكل نيئة فتقطع البلغم، كالذي يفعل بها جميعًآ. الأطعمة الغليظة الغالب على الأطعمة الغليظة كلّها اليبس واللزوجة، فمنها شيء يكون اليبس واللزوجة من طبعه، ومنها ما يكتسب اليبس من غيره. فالذي يكون اليبس من طبعه: العدس، ولحم الأرانب، والبلوط، والشاه بلوط، والكمأة، والباقلي المقلّو، هذه كلّها غليظة، لأنّ اليبس في طبائعها. وأمّا الذي يكتسب اليبس من غيره، فالكُبُود، والبيض المسلوق، والمشوي وما قلي منه، واللبن المطبوخ طبخًا كثيرًا، والضروع، وعصير العنب المطبوخ، لاسيما ان كان العصير غليظًا، فهذه كلّها غليظة، لأنّ الحرارة بالطبخ أحدثت لها يبسًا وانعقادًا. وأمّا لحوم الإبل، ولحوم التيوس، ولحوم البقر، والكروش، والأمعاء، فإنّها غليظة بصلابتها، وكذلك الترمس، وثمر الصنوبر، والسلجم، واللوبيا، وما خُبز على الفرن، فإنّ ظاهره غليظ، لما أحدثت به النار من اليبس، وباطنه غليظ، لما فيه من اللزوجة، وكذلك كلّ ما لم يُجد عجنُه أو خبزه أو إنضاجه من خبز التنور، وكلّ ما خبز على الطابق بدهن أو غيره، والفطير، والشهد، واللبن، والأدمغة، فإنّها كلّها غليظة، للُزُوجة فيها طبيعية. وأمّا الفالوذج فإنّه غليظ للُزُوجته والانعقاد الحادث له من الطبخ. وأمّا الباذنجان فإنّه غليظ لليبس وللّزوجة في طبعه. وأمّا الخبز فإنّه غليظ لإجتماع الحالات الثلاث فيه. فأمّا السمك الصلب اللزج فإنّه غليظ لإجتماع الصلابة واللزوجة فيه. وأمّا الآذان والشّفاه وأطراف العضو، فإنّها تولد كيموسًا لزجًا ليس بالغليظ وقد تولّد ما يعرض من الأغذية الباردة عن هضمها وتلطيفها، كالذي يعرض من أكل الفاكهة قبل نضجها، ومن أكل الخيار والقثاء، وشحم الأترج واللبن الحامض. فهذه الأطعمة الغليظة كلّها إن صادفت بدنًا حارًا كثير التعب قليل الطعام كثير النوم بعيد الطعام انهضمت وغذت البدن غذاء كثيرًا نافعًآ، وقوّته تقوية كثيرة. وأحْمدُ ما تستعمل هذه الأغذية في الشتاء، لإجتماع الحرارة في باطن البدن وطول النّوم، ومتى أحسّ أحد في نومه نقصانا بيّنا وأكلها من يجد الحرارة في بدنه قليلة ولاسيما في معدته، ومن تعبه قليل ونومه بعد الطعام قليل لم يستحكم انهضامها، وتولد منها في البدن كيموس غليظ حار يابس، يتولّد منه سدة في الكبد والطحال، فلذلك ينبغي لمن أكل طعامًا غليظا من غير حاجة إليه لعلّة أو شهوة أن يُقلّ منه ولا يُعودّه، ولا يدمنه. وما كان من الأطعمة الغليظة له مع غلظه لزُوجة، فهو أغذاها للبدن، فإن لم ينهضم فهو أكثرها توليدًا للسدد. الأطعمة المتوسطة بين اللطيفة والغليظة تصح لمن كان بدنه معتدلاً صحيحًآ، ولم يكن تعبه كثيرًا، وأجود الأغذية له المتوسطة، لأنّها لا تنهكه ولا تضعفه كاللطيفة، ولا تولد خامًا ولا سددًا كالغليظة. وهي كلّ ما أُحكم صنعه من الخبز، ولحوم البقر، والدجاج، والجداء، والحولية من المعز. وأما لحوم الخرفان والضأن كلّها فرطْبة لزجة. وأمّا لحم فراخ الحمام والقطا فهو يولد دمًا سخنًا وأغلظ من الدم المعتدل. وأمّا فراخ الوراشين فإنّها مثل فراخ الحمام والقطا والإوز، فأجنحتها معتدلة وسائر البدن كثير الفضول. وكلّ ما كثرت حركته من الطير وكان مرعاه في موضع جيد الغذاء صافي الهواء، كان أجود غذاء وألطف، وكلّ ما كان على خلاف ذلك فهو أردأ غذاء وأوسخ. وكلّ ما لم يستحكم نضجه من البيض، وخاصة ما أُلقي على الماء الحار وأُخذ من قبل أن يشتد، فهو معتدل. وكلّ ما كان من لحم السمك ليس بصلب ولا كثير اللزوجة والزهومة، وما كان مرعاه نقيًا من الأوساخ والحمأة، فهو معتدل جيّد الغذاء. ومن الفواكه التين والعنب إذا استحكم نضجهما على الشجر وأسرعت الإنحدار الى الجوف، كان ما يتولّد منها معتدلاً، فإن لم تسرع الإنحدار فلا خير فيها. ومن البقول الهندبا، والخس، والهليون. الأطعمة الحارّة يحتاج إليها من كان الغالب عليه البرودة، في الأوقات والبلاد الباردَين، وينبغي أن يتجنبها من كان حارّ البدن، وفي الأوقات الحارّة والبلاد الحارة. منها: الحنطة المطبوخة، والخبز المتخذ من الحنطة، والحمص، والحلبة، والسمسم، والشهدانج، والعنب الحلو، والكرفس، والجرجير، والفجل، والسلجم، والخرذل والثوم والبصل والكراث والخمر العتيق. وأسخن الأشربة الحارّة العتيق الأصفر. الأطعمة الباردة ينبغي أن يستعملها من كان حارّ البدن، وفي الأوقات الحارّة والبلد الحارّ. وهي: الشعير وما يتخّذ منه والجاورس والدُّخن، والقرع والبطيخ والخيار والقثاء والإجاص والخوخ والجمّار وما بين الحموضة والعفوصة، من العنب والزبيب والطلع والبلح، والخس والهندبا، والبقلة الحمقاء والخشخاش والتفاح والكمثري والرّمان. فما كان من الرّمان عفصًا فهو بارد غليظ، وما كان حامضًا فهو بارد لطيف. فأمّا الخل فهو بارد لطيف، وهو ضارّ بالعصب. وما كان أيضا من الشراب عفصًا فهو أقل حرارة، وما كان من ذلك حديثًا غليظًا فهو بارد. الأطعمة اليابسة يحتاج إلى الأطعمة اليابسة من كان الغالب على بدنه الرطوبة، وفي الأوقات الرطبة والبلد الرطب. منها العدي، والكرنب، والسويق، وكل مايشوى ويطبخ ويقلى، وكلّ ما أكثر فيه السّذاب والمري والخل والإبزار والخردل، ولحم المسن من جميع الحيوان. الأطعمة الرطبة يحتاج إلى الأطعمة الرطبة من أفرط عليه اليبس، وفي الأوقات اليابسة والبلاد اليابسة. وهي: الشعير، والقرع، والبطيخ، والقثاء، والخيار، والجوز الرطب، والعنب، والنبق، والإجاص، والتوت، والجمار، والخس، والبقلة اليمانية، والقطف، والباقلي الرطب، والحمص الرطب، واللوبيا الرطبة وكلّ ما يطبخ بالماء ويسلق به وتقل فيه الإبزار والخل والمري والسذاب، وجميع لحوم صغار الحيوان. الأطعمة القليلة الفضول أجنحة الطيور، وأكارع المواشي ورقابها، ما يربى في البرّ من الحيوان في المواضع الجافة. الأطعمة الكثيرة الفضول ومنها لحم الأوز خلا الأجنحة، والأكباد كلّها من جميع الحيوان، والنخاع، والدماغ، والطيور التي في الفيافي والآجام، والحمص الطري، والباقلّى الطري، ولحم الضأن، ولحم المراضع من كل الحيوان، ولحم كلّ ساكن غير سريع النهوض، وما كان من السمك على ما ذكرنا صلبا لزِجًا. الأطعمة التي غذاؤها كثير كلّ ما غلظ من الأطعمة اذا انهضم غذى غذاء كثيرًا، وكل ما كان له فضول كان غذاؤه كثيرا. وقد يحتاج إلى الأطعمة الكثيرة الغذاء، من احتاج إلى أن يأخذ طعامًا قليلاً يغذّي غذاء كثيرا، كالنّاقة، والمسافر، وكالذي يثقل معدته الكثير من الطعام وبدنه يحتاج الى غذاء كثير. فمن ذلك لحم البقر، والأدمغة، والأفئدة، وحواصل الطير كلّها، والسمك الغليظ اللوح، والسميذ، والباقلى، والحمص، واللوبيا، والترمس، والعدس، والتمر، والبلّوط، والشاه، بلّوط والسّلْجم، تغذو غذاء كثيرا لغلظها، واللبن الحليب والشراب الأحمر وغذاء اللبن كلّه أغلظه وأرقه، أقلّ غذاء. وأغلظ اللبن لبن البقر ولبن النعاج، وأرقه لبن الأُتن وألبان اللّقاح، وألبان الماعز متوسطة بين ذلك. وأغذى الأشربة النبيذ الأحمر الغليظ الحلو، ثمّ الغليظ الأسود الحلو، ثمّ الغليظ الأبيض الحلو، ثمّ من بعد هذه الأشربة العفصة الغليظة الحلوة وكل ما مال إلى الحمرة والحلاوة كان أغذى، والأبيض أقلها غذاء. الأطعمة التي غذاؤها قليل كلّ ما كان من الأطعمة لطيفًا كان غذاؤه قليلاً، وكل ما أفرط فيه اليبس أو الرطوبة، أو كثرة الفضل، قل غذاؤه، كالأكارع والكروش والمصارين والشحم والآذان والرئة ولحم الطير كلّه، وما مُلّح من الحيوان قليل الغذاء لليبس الذي فيه وكذلك الزيتون والفستق والجوز واللوز والبندق والغُبيرا والزّعرور والخرّوب والبُطم والكمّثري العفص، والزبيب العفص، فإنّما قلّ غذاؤهما للعفوصة. وأمّا السمك والقرع والرمان والتوت والإجاص والمشمش، فإنّما قل غذاؤها لكثرة رطوبتها وغذاؤها غير باق سريع التحلّل. وأمّا خبز الشعير، والخُشْكار والباقلي الرطب وجميع البقول مثل الكرنب، والسلق والحماض والبقلةالحمقاء والفجل والخردل والحُرْف والجزر فقليل الغذاء لكثرة الفضل فيها. وأمّا البصل، والثوم والكراث فإنّها إذا أكلت نيئة لم تغذ وإذا طُبخت غذّت غذاء يسيرًا. وأمّا التين، والعنب، فإنّهما بين ما قل غذاؤه وما كثر غذاؤه. الأطعمة التي تولد كيموسًا جيّدا كلّ ما كان معتدلاً من الأطعمة لم تفرط فيه قوّة ولا تجاوز القدر فيه، ولّد دمًا خالصًا نقيّا صحيحًآ، وكلّ ما كان كذلك فهو موافق لجميع الأبدان وفي جميع الأوقات، وهو لجميع الأبدان المعتدلة في جميع الأوقات، وفي الأوقات المعتدلة أوفق، لأنّ ما تجاوز الاعتدال من الأبدان يحتاج من الأطعمة الى ما فيه قوّة تجاوز الاعتدال، وكذلك الأبدان المعتدلة في الأوقات التي ليست بمعتدلة.