كانت مدينة سليانة على وقع الشّعر والموسيقى والمسرح على مدى يومين حيث تمّ عشية السبت الماضي افتتاح الملتقى الوطني الأوّل للإبداع تكريما للشاعر الراحل عبد الحفيظ المختومي (الكنعاني المغدور). كان الضيوف والنقابيّون والأهالي وجْهًا لوجه مع وصايا وبحوث ونماذج من دراسات الشاعر والمناضل عبد الحفيظ المختومي من خلال معرض صور وكتابات الراحل عبر مسيرته الطويلة وذلك في فضاء دار الثقافة ابن أبي الضّياف بسليانة. ووسط حضور جمع غفير من الإعلاميين والنقابيين والحقوقيين والفنانين والمبدعين وأهل الشاعر الحاضر / الغائب عبد الحفيظ المختومي، كان حلول موكب الاستاذ مهدي مبروك وزير الثقافة والسيد محمد الهادي الجويني مندوب الثقافة بتونس وكان في استقبالهم الأخوان محمد المسلمي وسامي الطاهري الأمينان العامان المساعدان والسيد مهذب القرفي مندوب الثقافة بسليانة. والأخ نجيب السبتي الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بسليانة الذي كانت له كلمة مؤثرة حيث أكّد أنّ سليانة ولاية هُمّشت طويلا اقتصاديا وثقافيا خلال نصف قرن من الدكتاتوريّة، وأنّه آن الأوان كي تكون سليانة ضوءًا جديدًا يشعّ على العالم ثم كانت كلمة السيد والي سليانة الذي رحّب بالضيوف في جوّ بروتوكولي لا يضيف إلى المشهد شيئا. ثم كانت كلمة الاستاذ المهدي مبروك بليغة في حقّ الشاعر والمناضل والإنسان عبد الحفيظ المختومي، احتفاءً به واعترافًا بما قدّمه على كلّ الأصعدة. وأكّد السيد مهدي مبروك ان الاتحاد العام التونسي للشغل شريك فاعل وحقيقي لوزارة الثقافة بمساهمته الفعّالة في إنجاح الملتقى وتعهّد أمام الحاضرين بأنّه سيدعّم نشر كلّ الانتاجات التي تركها لنا الشاعر الراحل، لأنّ ما قدّمه يكتسي بعدًا أمميّا ووطنيّا وعربيّا من خلال نضاله المسلّح في صفوف المقاومة الفلسطينية. وكان السيد وزير الثقافة قد طالب ب 1٪ ميزانية للوزارة كما تنصّ على ذلك منظمة اليونسكو لأنّ الميزانية الحالية تعدّ 0,68٪. ثمّ كانت كلمة الأخ محمد المسلمي الأمين العام المساعد بالاتحاد العام التونسي للشغل، كلمة مؤثرة وجّه من خلالها التحية للمناضلين من أمثال عبد الحفيظ المختومي ولعائلته ورفاقه، حيث كان «حفّة» شاعرًا ونقابيا ومقاتلا كما أكّد الأخ محمد المسلمي ان للثقافة دورا جوهريّا في بناء الوعي البديل، فأهمية الجانب الثقافي منهج وممارسة في الاتحاد العام التونسي للشغل. أمّا الأخت المناضلة وسيلة العياري زوجة المرحوم عبد الحفيظ المختومي فقد وجّهت تحيتها للحاضرين وقرأت مشروع البيان التأسيسي من أجل جبهة ثقافية تقدمية الذي كان قد كتبه الشاعر الراحل يوم 16 جانفي 2011 (وكان قد نُشر في جريدة الشعب) لأنّه حقّا مشروع ونبراس لكلّ المبدعين. إثر ذلك فُسحَ المجال لعرض شريط وثائقي حول مسيرة عبد الحفيظ المختومي شاعرًا وإنسانا ومناضلا من إنجاز المخرج رضا بن حليمة، وهذا الشريط عبارة عن ذاكرة بصرية حيّة ستوزّع نسخ منها مستقبلا في شكل DVD. كانت الحصّة المسائيّة ناجحة بحضور عدد غفير من الإعلاميين والمبدعين في مختلف المجالات والنقابيين وأهل وذوي الشاعر ورفاقه وأصدقائه ومكونات المجتمع المدني من جمعيات ورابطات ونقابات (فقد حضر الأستاذ شكري بلعيد، وعبد الستار بن موسى وعدد من الشخصيات الوطنية الفاعلة). وإثر الاستراحة الأولى تمّ عرض مسرحيّ لفرقة الحلقة بعنوان «حتى لا يأكلنا الصّدأ فننسى» ثم أغنيات للفنان سمير العقربي في عزف خاصّ على الكمنجة.. أما السّهرة فقد كانت متنوّعة وثرية بقصائد سليم ساسي مع عزف على الناي لسمر بن عمارة وأغنيات لإحسان العريبي بمشاركة هند النصراوي وقصائد لفاطمة بن فضيلة وعبد الفتاح بن حمودة وأغنيات للفنان محمد بحر متوحّدا مع آلة العود. وكان اختتام السهرة مع فرقة أجراس لعادل بوعلاّق. وفي صبيحة الأحد 6 ماي بمقر الاتحاد الجهوي للشغل بسليانة، كان الجمهور مع ندوة نقدية تناولت تجربة الشاعر عبد الحفيظ المختومي، وذلك برئاسة الاستاذ سنان العزّابي الذي استهل الجلسة بكلمة أكّد فيها أنّنا بصدد مسار ثوريّ وأنّ الاتحاد العام التونسي للشغل قلعة للنّضال الثقافي باعتبار أن عشرات المبدعين في كل المجالات ينتمون إلى الاتحاد. كانت المداخلة النقدية الأولى للاستاذ ظافر ناجي تناولت سيرة الغياب في الأعمال الشعرية لعبد الحفيظ المختومي وتطرّق فيها إلى أنّ الغائب يحضر تاريخا أو رمزًا أو مكانا وأنّ الغائب يحضر اسمًا ولفظًا وأحيانا يحضر استدعاءً وتلميحًا، حيث يكون الغياب دلالةً على الحلم المنشود الذي ظلّ يرافق الشاعر في رحلة الكتابة. أما الاستاذ مبروك المعشاوي في مداخلته «مسارات الرحيل وغواية الموت» فقد أكّد أنّ الموت له أشكال مختلفة في حضوره رحلةً أو ترحالاً أو سفرًا.. فالرحلة الشعرية لعبد الحفيظ المختومي هي عودة إلى الطّفولة أو الماضي المضيء أو هو الرحلة إلى الذات والوطن المسبيّ. ومن هنا تتأتّى أصالة موضوع الرحلة في النّصوص. ومن جهته قدّم الاستاذ منتصر الحملي مداخلة بعنوان «خصائص القول الشعريّ في تجربة عبد الحفيظ المختومي» وتطرّق فيها إلى التشكل المكاني وحضور الصورة الشعرية وإلى التشكل الزماني من خلال زمن اللغة وإيقاعها ودلالة هذه المستويات، فالشاعر مهموم بلغته وما رحلته إلاّ فيها وبها وهي لغة تراثية من خلال حضور رموز أو أسماء أو أماكن (الصعاليك، عنترة، بغداد، القدس، بيروت، ابن عبّاد، محمود درويش، الخنساء، أمل دنقل، غسان كنفاني) ولكنها في نفس الوقت لغة حديثة إحالية من خلال المجاز والرمز والاستعارة والأسطورة والواقع.. فالشاعر يعيش بين ثنائية لغة الذات ولغة الجماعة.. وهذه اللغة ارتقت إلى درجة الايحائية مشبعة بالدّلالات، منها تعانق التجربة الشخصية واللغة الشعرية وتعانق الذاتي والموضوعي وتعانق البسيط والعميق... وهذا ما يؤصّل التجربة الشعرية للمختومي ويضعها في فضاء رحب من الغنى والتنوّع وثراء المعجم وصفويته. أمّا المداخلة الأخيرة فقد كانت للأخ عزالدين معيوفي من خلال شهادة عن المختومي مناضلا وإنسانًا عاش محطّات بارزة من التاريخ العربي والوطني فقد عاش هزيمة 1967 وحركة ماي 1968 بفرنسا والنضال في صفوف الجبهة الشعبية ومعايشته لحركة فيفري 1972 بالجامعة التونسية وأحداث 26 جانفي 1978 التي استهشد فيها مئات النقابيين الأحرار. إنّ هذه الاحداث كما يؤكّد الأخ عزالدين معيوفي هي التي طبعت حياة المختومي فقد مات وفي نفسه انكسار... وإثر المداخلات تمّ طرح أسئلة كثيرة من المتدخلين تعلّقت بتأثر الشاعر الراحل بالمتنبي ومحمود درويش وذلك لاشتراكهم جميعًا في الغربة. كما كان لتدخّل غسّان المختومي (ابن الشاعر) دور مهمّ في توضيح بعض المسائل المتعلقة برحلة والده فقد أكّد أنّ أبرز تجربة طبعت حياة والده هي التجربة اليمنية (اليمن الجنوبي سابقا) فروح والده يمنيّة (بلقيس، السموأل، سبأ، ظفار، عنترة...) في حين أكّد الاستاذ جلول عزونة أنّ تجربة عبد الحفيظ المختومي تدخل في ما أسماه بأدب المحنة التي يكون فيها الفتى العربيّ غريب الوجه واليد واللّسان! وشُفع النقاش بتلاوة البيان الختامي الذي قرأه الاستاذ مبروك المعشاوي على الحاضرين وهو نواة حقيقية لاستكمال مهامّ الثورة الثقافية. وتمّ الاختتام بكلمة مؤثرة للأخ فتحي الدّبك الذي أكّد أنّ عبد الحفيظ المختومي الراحل الذي بقي حيًّا بامتياز...