1) «بدأ التاريخ عندما بدأ الانسان يعمل»: بقدر ما كابد العمل تصاريف شتى من مظاهر الاهانة والاحتقار الى حد التبخيس والتاثيم في تاريخ الفكر والنظم الاجتماعية القديمة بقدر ما اكتسى اهمية كونية وشاملة في سياق حضارة العمل تحديدا في الازمنة الحديثة. واذا كان هناك شيء مثيرا للاستغراب حقا فهو ان العمل كقوام للحضور الانساني في العالم يمثل شاهدا على انجازات الانسان النوعية في سعيه الدؤوب نحو افضل من شانها ان تفصله عن الشروط الحيوانية. لكن في المقابل تكشف المنزلة الوضيعة للقوى المنتجة في التشكيلات الاجتماعية الطبقية عن رحلة معاناة لوقائع التاريخ الاستعبادي والتسخير الاضطهادي والاستغلال القمعي.وفي الحقيقة تكشف المعاناة التاريخية للقوى المنتجة ان تسعير كلفة التغيير النافع والمثمر للاشياء لبسط سلطان الانسان على الطبيعة اقتضى معاناة وقائع جدل النفي السالب للحق والحرية والكرامة غير انه من الملاحظ ان هذا الجدل لا يمر دون اثبات ان العمل ليس اضافة عارضة للوجود الانساني بل انه ممارسة حية وفاعلة كامنة في صميم كيانه وتكوينه الطبيعي المفتوح على ديمومة الحياة وصيرورة التاريخ. لقد ساهمت الحضارة والتاريخ ومبادئ الاقتصاد السياسي في التاكيد على ضرورة الاعتراف بالمعنى والقيمة الكونية للعمل بمختلف رموزه ودلالات حضوره في الحياة اليومية للانا الانساني بابعاده الفردية ومقوماته ومؤسساته الاجتماعية-الحضارية.ضمن هذا السياق تكشف المدونة الماركسية عن كونية المنزلة الانسانية لمقولة العمل حيث يظهر ذلك خلال الاقرار بان العمل هو الممارسة التي تكسب الاشياء قيمة ودلالة انسانية وفي هذا الصدد يقول ماركس:»يبعث العمل الاشياء من بين الاموات». واذا ما اعتبرنا العمل ممارسة حية وغائية نفعية في علاقة بالاشياء فذلك لان جدل التغيير النافع للاشياء في الطبيعة ينفتج حركة ومجهودا ومغامرة على التاريخ اذ يقول ماركس:» بدا التاريخ عندما بدا الانسان يعمل». وعليه لا يستقيم جدل الوساطة لعلاقة العمل بالطبيعة والتاريخ ا من خلال تموضع عاملين ضمن حركة التفاعل الخلاق والابداعي بين العوامل الذاتية النوعية الكامنة في الوجود الانساني والمقومات الموضوعية والمادية لاشياء الطبيعة ، وعندئذ ينجلي العمل كممارسة ضمن التفاعل الجدلي بين العاملين التاليين: -عامل القدرات والاقتدارات الذاتية والمهارات النوعية الكامنة في الانسان بوصفه قوة طبيعية تتوفر على استعدادات ذهنية(التفكير ، التخيل، التصور، التذكر، الذكاء بوظائفه النظرية والصناعية) والقوى او القدرات الجسدية(الوقفة المستقيمة، تحرر اليدين، القوى العضلية...). - عامل موضوعي: مواجهة اشياء الطبيعة:الوفرة، الندرة، الجفاف والخصوبة، المنفعة والمضرة، العطاء والجدب، القسوة والرفق... ومن ثمة فالطبيعة ليست دائما حليفا للانسان ومنسجمة مع حاجياته ورغباته الاساسية الطبيعة. ان التفاعل الابداعي والوظيفي النفعي بين القدرات الذاتية النوعية والمقومات الموضوعية المبسوطة في الطبيعة تكشف عن قدرة الانسان على ان ينحت بذراعه ودماغه مسار سيادته على الاشياء وبذلك ينخرط الانسان في مغامرة التحرر من الضرورة الطبيعية. واذا كانت الطبيعة لا توفر للانسان ما يحتاجه بشكل مباشر فذلك انما يشكل حافزا ومحركا له لكي يندمج في مختلف وضعيات الشغل وعادات الاشغال المفيدة والنافعة بما تقتضيه من مفاعيل الكدح، الفلح ، الاثمار، الزراعة، التجارة ، الصناعة اي التكسب والارتزاق. ولقد ترسب في ماثور القول العربي:»اكدح لي اكدح لك»، وعندئذ يصبح من المهم الاشارة الى ان العمل قد اكتسب دلالته الانسانية الكونية في الازمنة الحديثة لكن ذلك ليس منفصلا عن بعض المحاولات للوقوف على عمق اهميته ومنزلته في حياة الانسان كما تحدد وفقا للسجل المفهومي الخلدوني في فصل :» في وجوه المعاش..» من المقدمة حيث يقول سياقيا:» اعلم ان المعاش هو عبارة عن ابتغاء الرزق والسعي في تحصيله وهو مفعل من العيش، كانه لما كان العيش هو الحياة لا يحصل الا بهذه جعلت موضعا له على طريق المبالغة...» من جهة اخرى كيفما كان تاويل اوجه وضروب العلاقة بين مقولة العدالة وحضارة العمل فانه من المعقول جدا منطقيا وواقعيا تنزيلها ضمن سياقات الحداثة. لقد استقامت الحداثة حركة شاملة لتقدم العقلانية الاقتصادية وتراكماتها التاريخية المتموضعة في المرحلة الماركنتيلية وظهور الراسمالية التجارية والصيرفية اضافة الى استفادة الحداثة من مكاسب المنجزات العلمية التقنية التي غيرت تغييرا جذريا وكليا ادوات العمل ووسائل الانتاج للخيرات والثروات المادية وذلك ضمن الحركية الشاملة للمؤسسة الاقتصادية والمقومات الاجتماعية لحضارة العمل. وعلى الرغم من ان الفلاسفة الميتافيزيقيين قد بخسوا مقولة العمل والقوى المنتجة القيمة والمنزلة الا انهم انشغلوا عميق الانشغال بمسالة العدالة الاخلاقية والسياسية. لقد طرحت مقولة العدالة ضمن تصورهم لمقتضيات تدبير حكمة العيش معا في فضاء المدينة التي تجعل البشر بحكم انهم عقلاء يتدبرون مسالك تحقيق الخير الاسمى للمدينة ولوحدتها الاخلاقية والساسية. 2) العدالة التوزيعية والعدالة التعويضية: ان العدالة وفقا لنموذج التفكير الميتافيزيقي القديم قد ارتبطت بالمعايير الايتيقية والساسية وهو الامر الذي نقف عنده في ارسطو. فكيف يحدد ارسطو العدالة واي تاثير لتصوره على التصورات المعاصرة للعدالة والعمل وخاصة لدى جون راولس ؟ لتدبير شؤون الحياة المشتركة ضمن الحياة المدنية يذهب ارسطو الى الاقرار بان الاسس الايتيقية والسياسية للعدالة بوصفها اسمى الغايات الاكسيولوجية والتشريعية، تقتضي منطقيا وعمليا العمل على ايجاد حلول للمشكلات والقضايا الاحراجية الثاوية في الوجود الانساني بوصفه كائنا عاقلا وكائنا سياسيا. ان اولى غايات التاسيس العقلاني والايتيقى للعدالة في الحياة المشتركة ضمن المدينة تكمن في تحديد معنى الفضيلة والرذيلة، المساواة واللامساواة، المنفعة والمضرة ، المصلحة والمفسدة وذلك وفقا للارشادات والمبادئ المعيارية والتشريعية لعدالة القانون المدني السياسي.وتظهر العلاقة التلازمية بين شريعة القانون المدني والتاسيس للعدالة في ضمان المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين الاحرار دون تمييز على اساس الجاه ن السلطة اوالامتيازات الاقتصادية والاجتماعية. بالاضافة الى ذلك تقتضي عدالة القانون راب الصدع الذي ينتج عن اانتهاك شرعيته الايتيقية والاجتماعية وذلك باقتراف الشرور والمخالفات والجرائم المتمثلة في اللجوء الى الحيلة المكر الخداع العنف لتحقيق مصلحة او للحفاظ على الامتيازات المادية او الادبية. ومن الملاحظ ان ربط الصلة الطبيعية بيت تكوين الجماعة السياسية او المدينة والتاسيس لعدالة المساواة بين المواطنين الاحرار يطرح بنظر ارسطو مشكل تسويغ اللامساواة الطبيعية بين الافراد والفئات والطبقات الاجتماعية حسب تداول منطوق التحليل السوسيولوجي المعاصر.ان المشكل الاساسي حسب ال الغائية الارسطية يكمن في ضرورة تسويغ دور اللامساواة الطبيعية ومساهمتها في تحقيق النمو الكامل والخير الاسمى للحياة المدنية،يقول ارسطو في هذا السياق:» لان المدينة هي غاية هذه الجماعات، وطبيعة اي شيء هي غايته. لاننا تقول عندما يبلغ اي شئء نموه الكامل ان هذا طبيعة الشيء... وعلاوة على ذلك فان السبب النهائي وغاية الشيء هو خيره الافضل. والكفاية التامة هي في ان واحد غاية وخير في منتهى الجودة.»(السياسة ص27-28). وعليه فالكل المدني حسب تصور ارسطو لا يمكنه ان ينسجم عضويا ويكتمل غائيا الا اذا ما سوغت اللامساواة الطبيعية وادمجت في العلاقات بين الافراد والاطراف ارجتماعية التالية:اللامساواة بين الاسياد والعبيد/اللامساواة بين الرجل والمراة/اللامساواة بين الكهول والاطفال/اللامساواة بين المواطن الاغريقي والاجنبي البربري. وضمن هذا المنظور تطرح مسالة العدالة التوزيعية والعدالة التعويضية. والجدير بالانتباه في هذا المجال ان ارسطو يكشف في مدونته السياسية والايتيقية ان عدالة قانون المساواة في الجزاء والعقاب او في الحقوق والواجبات بين المواطنين الاحرار لا تتعارض مطلقا مع تسويغ «اللامساواة الطبيعية» في الملكية والثروة والامتيازات الاقتصادية والاجتماعية. وعندئذ فان السؤال الذي يطرح على الجماعة السياسية هو كيف يمكن الجمع في ادارة شؤون المدينة بين عدالة قانون المساواة وشرعية اللامساواة في الملكية والثروة والامتيازات المادية والاجتماعية؟ يؤكد ارسطو في هذا الاطار انه لا مفر من الاشتغال على تعدد صور العدالة وذلك سعيا لضبط الحقوق وحسن تبادل المنافع والمصالح، الحاجات والرغبات الطبيعية لضرورات الحياة اليومية. ومن ثمة فان مجال العمل والانشطة الاقتصادية المرتبطة بانتاج الخيرات والثروات وتبادلها في صيغة منافع عينية او عقود مدنية وتجارية تقتضي الاسترشاد بالمعايير والقواعد الاجرائية التالية للعدالة التوزيعية والعدالة التعويضية:باعتبار ان البشر غير متساوين في القدرات والاستعدادات الطبيعية والاجتماعية فان العدالة التوزيعية تكتسي اهمية تسويغها لجني المكاسب وتحصيل الامتيازات من خلال الاشتغال في الحياة المدنية على الاجراءات التالية: العمل والمهارة/الجدارة والكفاءة/ القوة والفاعلية والابداع/التقسيم الاجتماعي للعمل وفقا لمعايير جنسية(المراة الرجل) او لمعايير التراتبية الاجتماعية(السيد والعبد)/الشرعية الايتيقية(العمل ضد السرقة)والمشروعية القانونية لجني الاموال وتحصيل الملكية والثروات. ان التدبير السليم والحكيم، تبعا لذلك،للمصالح المشتركة حسب تصور ارسطو يقتضي التأسيس لشرعية العدالة التعويضية والتي تتنزل ضمن ما يبرمه الفاعلون في عالم الممتلكات والنشاط الاقتصادي من عقود وتسويات واتفاقات تيسر تبادل المصالح والمنافع وانتقال الخيرات والثروات بين الافراد والجماعات المتآلفة والمتكاملة من اجل تحقيق السعادة المشتركة للكل المدني.