السيد معز الجودي هو خبير اقتصادي شاب عمل في هذا المجال في فرنسا بعد أن نال شهادته الجامعيّة عاد إلى تونس قبل 14 جانفي بقليل وفتح مشروعه الخاص فضلا عن عمله مع مجموعة من الخبراء الاقتصاديين. كيف تقيّم الوضع الاقتصادي؟ الانطباع الأولي هو أنّ الوضع صعب. ولكن ليكون هذا الرأي مبرّرا لابدّ أوّلا من العودة إلى الأسباب الحقيقيّة التي أدّت بالاقتصاد التونسي إلى الصعوبات الحالية حتى نفهم الأسباب والمسبّبات فالجميع يعرف أنّ الوضع الاقتصادي قبل 14 جانفي لم يكن كارثيّا وذلك لم يكن لا بفضل بن علي ولا الحكومة بل بفضل مجهود رجال ونساء تونس. المشكل الذي كان يعانيه الاقتصاد قبل 14 جانفي يكمن في التوزيع غير العادل للثرورة من ناحية ويكمن أيضا في أنّ الفساد أضعف قدرة الاقتصاد التونسي. فقد كان اقتصادنا يحقّق نسبة نموّ تتراوح بين 4 و5٪ غير أنّها لا تتوزّع بشكل عادل كما أنّ الفساد منعنا من بلوغ نسبة نموّ ب 7 أو 8٪ نظرًا إلى العائلة والسلط واستغلال النفوذ. بعد الثورة بدأت مظاهر الديمقراطية فتشكلت الأحزاب وأصبحت هناك حرية تعبير وقد سوقت بعض الأحزاب أنّ الوصع قاتم وأنّ الاقتصاد منهار وهو ما لم يكن صحيحًا وكان بالامكان البناء على قاعدة ما أنجر وليس هدم كلّ الماضي ولكن هذا ما حصل حيث كانت سنة 2011 كارثية شهدت انهيارًا للاقتصاد وتحطيم الثروات وهو ما أنتج تضخّم مالي ونسبة نمو سلبية (1,85-٪) وموازنات مختلة ومشاكل في القدرة الشرائية. وقد اعتقدنا في البداية أنّ الأمر يدخل في اطار كلفة الثورة والديمقراطية لكن بعد الانتخابات وقدوم حكومة الترويكا كنّا ننتظر أن تقوم مباشرة بعد تولّي المهام بإصلاح الوضع ولأنّ الاقتصاد التونسي قائم على التنافسية وجلب الاستثمارات الأجنبية والتصدير والمناولة وهو منوال تنمية للنقاش ولكن وفي ظلّ الواقع آنذاك كان من المفترض أن تتخذ اصلاحات عاجلة. ومنها الاصلاحات الجبائية لأنّ المنظومة الجبائية غير عادلة ومضرّة ومنها أيضا مراجعة مجلة الاستثمارات. لكن هذه الإجراءات تتطلّب بعض الوقت لتعطي مفعولا؟ نعم هذا صحيح ولكن ما أتحدّث عنه هو غياب الارادة وحتى النيّة في الاصلاح وثانيا فإنّ سنة قد مرّت الآن وهو وقت كافٍ ولكن لا توجد أي اجراءات. ومن الاجراءات العاجلة التي كان يجب اتخاذها هي مقاومة التضّخم المالي. فالمعروف هو أنّ التضخم ينتج عن تهريب السلع ومقاومة التّهريب أمر مستعجل لأنّه يضرّ بالتوازن بين العرض والطلب ولا يعود بالفائدة على المجموعة الوطنية وينتج التضخم أيضا غياب المراقبة من قِبَلِ وزارة التجارة فأصبح المنتج والمزود. يحدّد الأسعار بصفة غير معقولة وكما يريدها، والسبب الثالث للتضخم هو ارتفاع الأسعار العالميّة وتراجع قيمة الدينار خاصّة بعد ارتفاع الواردات وتراجع الصادرات. ومن الاجراءات العاجلة أيضا ضرورة المحافظة على توازن الميزانية فقد جرت العادة أن تشهد الميزانية عجزا لا يتجاوز 3٪ لأنّه من الممكن التحكم فيه الاّ أنّ العجز الحالي للميزانية قد بلغ 8,9٪ على عكس الرقم الذي قدّمته الحكومة والذي تضمّن الموارد الخارقة للعادة ممّا حفف العجز بصفة مغلوطة والرّقم الصحيح هو كما قلت 8,9٪ وليس 6,6٪ وهو عجز مرجّح للارتفاع ليبلغ 10٪ وهو مستوى العجز الذي أغرق اليونان. وتكمن ضرورة التعجيل بمعالجة العجز في أنّ الميزانية هي أهم أدوات الدولة ومفاتيح التنمية الاقتصادية. وفي الوقت الذي انتظرنا أن تعمل الحكومة على قانون الميزانية خاصّة أنّ حكومة السيد الباجي قد وضعت قانون أولي إلاّ أنّ الحكومة أشغلت في المسائل السياسية ولم تنجز مشروع ميزانية لتعمل به إلى غاية مارس 2012 في الوقت الذي كان من المفترض أن يجهر القانون قبل 1 جانفي 2012. هذه الوضعية عطّلت الدورة الاقتصادية وخلقت ضبابية. وبعد أكثر من 4 أشهر تأخير صدر قانون ميزانية تكميلي يشكو من عديد النقائص ومنها مسألة 1200 مليون دينار التي تمثّل موارد من بيع الشركات المصادرة حيث لم تهتم الحكومة بهذه الشركات وفجأة وبعد تأخير بدأت في عملية البيع دون أدنى عناية علما وأنّ هذه الشركات تمثل قرابة 20٪ من الناتج المحلي الخام التونسي ولكن إهمالها تسبّب في ضررها وتراجع وضعها خاصة بعد طول تولّي المتصرّفين القضائيين لإدارتها. وقد أنتج ذلك ضررًا اقتصاديا كبيرًا لأنّ هذه الشركات التي حازتها العائلات الحاكمة تمثّل زبدة الشركات التونسية. فعوض أن تعود بالنّفع على الاقتصاد أصبحت الحكومة تريد التخلّص منها. هذه الوضعية جعلت العائلات المقدرة ب 1200 مليون دينار من هذه الشركات التي تضمنها قانون الميزانية غير واقعيّة وغير ممكنة. ومن النقائص أيضا مسألة المساهمة الارادية لرجال الأعمال والمقدرة ب 450 مليون دينار وهي مسألة غير ممكنة والتمشّي كان خاطئ وفي الخلاصة يمكن القول أنّ الحكومة عملت بميزانية خاطئة وغير صحيحة، وغير مفعلة وغير واضحة. وقد عوّلت الحكومة على قروض خارجية بقيمة 4,21 مليار دينار لم تتمكّن من الحصول منها الاّ على 2 مليار لأنّ الاقتصاد التونسي لم يعد محلّ ثقة ولأنّ الترقيم السيادي انخفض ولأنّ عدم الاستقرار لا يشجّع الاستثمار هذه الوضعية لن تخدم النمو ولن نحقّق نموّا كما هو متوقّع. كيف نفسّر سوء التصرّف في الشركات المصادرة؟ كي نكون موضوعين فإنّ المشكل المتعلّق بهذه الشركات انطلق قبل حكومة الترويكا وقد فسّر موقف حكومة الباجي على أنّ أولوياتها كانت الوضع الأمني وتنظيم الانتخابات وأن لا تمثّل حجّة مقنعة ولكن قد تبرّر سوء التعامل ولكن اليوم ومع وجود حكومة الترويكا فإنّ السؤال المطروح هو دور الحكومة في علاقة بأفضل الشركات التونسية المصادرة. فالمفروض أن يقع الإعتناء بهذه الشركة وتطويرها وتحسّن أداءها قبل بيعها وهو ما لم يحصل في ظلّ تصرّف المتصرفين القضائيين. ألا يمكن أن تكون هذه السياسة مقصودة؟ هذا ما أصبحنا نشكّ فيه فوجود هذه الثروة العظيمة وسوء تصرّف الحكومة فيها في الوقت الذي تواجه مشاكل اقتصادية واجتماعية وتهمل هذه الشركات لمدّة سنة ثمّ تأتي في أواخر الصيف تريد بيعها دون تقيم موضوعي وعلمي. فعمليّة العروض للبيع قامت بصفة متسرّعة غير متوافقة مع شروط الحوكمة الرشيدة والأسس القانونية فحتى مجلّة الصفقات العمومية لم تحترم خلال عمليّة البيع. لماذا يقع التوجّه نحو البيع والتفويت ألا يمكن أن تستغل هذه الشركات في حلّ المشاكل الاجتماعية؟ لابد أن يكون البيع آخر المطاف ما نلاحظه هو أنّ الحكومة والمسؤولين يدفعون بالشركات إلى الافلاس، مثل دار الصباح فحين تجد أنّ مجلس الادارة يصدر بيانا مغلوطا حول الوضع الاقتصادي والمالي للمؤسسة يصبح الشك في هذه العمليّة مبررا ويطرح التساؤل حول من له المصلحة فالأصل إذا هو تحسين أداء هذه الشركات وتوسيع انتداب الكوادر وحلّ مشكل البطالة ودفع الصادرات غير أنّ التصرّف لم يكن حكيمًا. ماهو الحلّ ليتجاوز الاقتصاد التونسي الوضع الحرج وليحقّق نسبة نمو محترمة؟ أوّل حلّ هو برنامج انقاذ للاقتصاد الوطني ولابد من التحلّي بالشجاعة السياسية الكافية للقول بأنّ الوضع الاقتصادي في انهيار ولابد من إنقاذه. برنامج الانقاذ هذا لابدأ أن يكون أوّلا تشاركيا وتوافقيا بين جميع الأطراف من حكومة واتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة والخبراء الاقتصاديين وأصحاب المؤسسات. وثانيا هذا البرنامج يجب أن يرتكز على 3 محاور أولا ما هو سياسي فالاقتصاد التونسي يعرف ضبابية كبيرة نتيجة عدم وضوح الواقع السياسي فلا أحد يعرف موعد الانتخابات ولا أحد يعلم ماذا سيحصل بعد 23 أكتوبر لذلك أرى أنّ على الرؤساء الثلاثة الاجتماع واقتراح خارطة طريق واضحة توضّح المسائل وتخلق مناخ من الاستقرار والثقة. والنقطة الثانية لابدّ من برنامج إحاطة بالمؤسسات لتتمكّن من مواصلة النشاط والحفاظ على مواطن الشغل لأنّ العديد منها مهدّدة بالافلاس ويكون ذلك بالدعم والمنح مع اشتراط التشغيل والنقطة الثالثة تكمن في ضرورة المحافظة على التوازنات الحياتية كالميزان التجاري وميزانية الدولة عبر الضغط على النفقات ومن ذلك مثلا التقشّف في مصاريف الحكونة التي يجب أن تقدّم المثال الجيّد في التقشّف وخلق مواطن شغل غير مفيدة في الوظيفة العمومية. فالوظيفة العمومية لا تخلق الشغل لأنّها مرفق للخدمات ومن يخلق الشغل هو المؤسسة الاقتصادية الخاصة والعامة. ولابد من التشجيع على الاستثمار الخاص واستغلال خيرة العمّال والكوادر التي عملت لمدّة عشرين سنة أو أكثر وفي هذا المجال أنا ضدّ خلق الشباب للمؤسسات لأنّهم يفتقدون للخبرة اللازمة. وعلى صعيد آخر لابد من العمل على منوال تنمية جديد في تونس فالمنوال القديم القائم على الاستثمارات الخارجية والمناولة والنسيج لم يعد مجديًا والمنوال الذي أقترحه اليوم هو منوال قائم على الطاقة الشمسية التكنولوجيا والخدمات الطبية ويمكن أن نركز في توجهاتنا العامة على هذه المجالات التي نملك فيها أفضليّة نسبة مثل الطاقة الشمسيّة خاصة وأنّنا نمتلك رصيدا جيدا في الصحراء تتنافس حوله الشركات اليابانية والألمانية وكذلك التكنولوجيا إذ يمكن أقطاب تكنولوجية ومزيد التركيز على تعليم التكنولوجيا لندخل المنافسة مع عدّة دول أخرى مع فارق في الآجر. كما أنّ الخدمات الطبية تمثّل مجالا كبيرًا للاستثمار فلدينا طاقات وخبرات ويمكن المراهنة عليها لتطوير المنظومة الطبية ويمكن أيضا المراهنة على قطاعات صناعة الأدوية وبذلك يمكن تحقيق مجالات اختصاصات للاقتصاد التونسي.