يقول المختصون إنّ اللون الأصلي للشعر هو البياض وأنّ هناك مواد صبغية هي التي تتحكم في الألوان وتزوده بها ، هذه المواد تستهدف بصيلات الشعرة، وعند تقدم السن تصاب المواد المفرزة بالشيخوخة فتصبح غير قادرة على تزويد البصيلة بالمادة الصابغة.. بهذا يصبح أداء الخلايا الملوِّنة هو المسؤول المباشر على ظهور الشيب من عدمه. تذكر الدراسات أيضا أنّ النساء لهنّ الفضل في ظهور الصبغة وانتشارها لكن رجال الرومان هم الذين طوّروها وتفننوا في مستحضراتها متوفوقين في ذلك على النساء وكانت الصبغة من أكثر طرق التجميل الشائعة عند الرومانيين وخاصة الذكور منهم. الشيب وخاصة المبكر منه شكّل مصدرا للقلق لدى الكثير من الناس رجالا ونساء على حد السواء، وتفنن الجنسان في إخفائه، ولعل تداعياته النفسية على الأفراد استدعت تناوله من قبل العلماء والباحثين والمؤرخين ورجال الأدب وحتى في الأديان كان حاضرا حيث تمت الإشارة إليه في كذا موقع..على غرار عدة أحاديث نبوية شريفة. من ضمن شرائح المجتمع التي كان الشيب حاضرا في سلوكها ومظهرها وألقى بظلاله عليها هي شريحة الحكام والملوك والأمراء... لقد تسبب الشيب في حالة ارتباك كبرى لدى الكثير من القادة ودفعهم إلى خيارات محرجة ومحصورة لا توجد فيها منافذ متعددة.. إمّا قبوله كأمر واقع والتعايش معه من الوهلة الأولى قبل أن يصبح هاجسا، أو التغاضي عن تقاليد المجتمع وعاداته والمضي قدما في الصبغة والتلوين وتجاهل التداعيات... لقد تحدث علماء النفس وغيرهم عن كيفية تعامل القادة مع الشيب وبنوا عليها عدة استنتاجات لعل أهمها أنّ أؤلئك الذين يتجهون إلى الصبغة يكونون أقل ثقة في أنفسهم من نظرائهم.. وهذا ما يدفعهم إلى ردود أفعال متشنجة وغير سوية للتغطية والتمويه على ضعف كامن بداخلهم في زاوية ما!! لكنها تبقى معلومات تنقصها الدقة وتحتاج لإشباعها بالدراسات والمتابعة العلمية. ربما نستطيع أن نشكل فكرة أو لمحة إذا ما تعرضنا إلى اصناف من هذه الزعامات فعلى سبليل الذكر لم يكن الجنرال بينوشي يصبغ وهو الدكتاتور الذي أطاح بالرئيس المنتخب للشيلي وتربع على العرش لما يناهز العقدين ، لم يصبغ شعر رأسه لكنه طبع البلاد بالرعب وصبغها بالدم ثم كانت نهايته التي كانت.. بدوره، اختارميلوشيفيتش أن لا يلون شعره، هذا الرئيس الذي كان يتمتع برؤية الدم وحصدت أوامره آلاف الأبرياء بين البوسنة والهرسك وإقليم كوسوفو وكرواتيا وانتهى في قفص في محكمة لاهاي، وإن كانت هذه المحكمة والقوانين التي تحكمها ميكيافيلية إلّا أنّ مصير هكذا مجرم لا يقل عن هذا الموقف.. ولا يسعه أكثر من هذا القفص. شارون صبرا وشاتيلا وغزة والقدس وبيت لاهيا وجباليا.. شارون المجازر أصر على الاحتفاظ بشيبه مثلما أصر على الاحتفاظ بمنهجه التدميري القاتل.. تعايش مع شيبه المبكر وتعايش معه شيبه لا هذا ترك ذاك ولا ذاك تخلى عن هذا حتى ترافقا سويا إلى موت كلينيكي. طويلة جدا لائحة الزعماء الذين لم يستحوا من التعدي على الشعوب ونهب ثرواتهم وقتلهم واستعمارهم ، لكنهم استحيوا من التعدي على شيبهم وتركوه يزدهر ويترعرع فوق رؤوسهم وعلى لحييهم ولم يتلفوه بالصبغة والتلوين حتى تشاوشيسكو ذلك الزعيم الروماني المثير للجدل كان متصالحا مع شيبه مجاهرا به لا يخفيه ، وبدى شعر رأسه شديد البياض وهو يتعرض للإعدام أمام عدسات الكاميرا.. تصالح الرجل مع شيبه ولم يتصالح مع شعبه!! عشرات الرؤساء والزعماء أعرضوا عن دنيا التخضيب ، على رأسهم بوش بطبعتيه الأولى والثانية وبلير وستالين وغورباتشوف وكلينتون وشامير وبيريز وناتنياهو... هؤلاء وغيرهم ممن رفضوا بصم شعورهم لكن بعضهم تركوا بصماتهم في الفلوجة وفي القدس وفي الصومال وفي العامرية وفي بقع كثيرة من أصقاع المعمورة، ورغم الأمطار والأنواء والرياح مازالت هذه الأماكنُ حمراءَ فاقعًا لونها. في بقاع كثيرة من الأرض فوق التراب أو تحته أناس لم تفلح مفاتن التخضيب في إغرائهم، فهذا منديلا وقبله عرفات والملك فيصل وغاندي... تركوا رؤسهم طبيعية ولم يبدلوا كما بدل غيرهم!!! اثنان وعشرون من المماليك العربية سواء القائم منها أو القادم أو من هي في طور الإنجاز يسري عليها ما يسري على بقية خلق الله، فهذه مصر الكنانة قد تسلط الشيب على فاروقها وجمالها وساداتها ثم انهزم!! وهذه تونس الخضراء غزى الشيب باياتها وبورقيبها ثم اندحر!! المتابع الفطن للأحداث سيكتشف بسرعة أنّ بعض "القادة" العرب هالتهم النهاية المأساوية لميلوشيفيتش وشارون وتشاوشيسكو وبينوشي وغيرهم ولما كان يصعب عليهم ترك مناصبهم ويصعب أكثر التوقف عن هواية التلذذ بالصراخ والدماء والآلام والقتل والتشريد... لما صعب عليهم كل هذا التجؤوا إلى التنكر والتخفي بالصبغة والتلوين والمساحيق والشد والشفط .. حتى يختلف شكلهم عن شكل نظرائهم وحتى يموهوا على محاكم لاهاي، لكن تمويههم على محاكم التاريخ أمر فيه نظر. بعض المفارقات العجيبة المحتكرة عربيا والتي تعتبر ماركة مسجلة لا يجوز أستنساخها أو الاقتراب منها هو ذلك المشهد المضحك المبكي الطريف المؤلم الذي يجمع بين رئيس عربي في سنّ الشيخوخة شديد سواد الشعر يصافح زعيم عربي في سنّ الشباب شديد بياض الشعر!! "لعله في سنّ حفيده"... مشهد التقطته عدسة مصور محترف ولأيم.. محترف لأن صورته لبقة ولمّاحة ولايم لانه تمكّن من تعرية حالنا بصفاقة خالية من الخجل.. يوصّف لنا بدقة وضع أمتنا المقلوب...رأس على عقب. ما أعدل الشيب لا يقبل المساومة ولا تعتريه العنصرية... كانت رؤوس الناس متباينة أحمر وأسود وأصفر وبني.. حتى إذا اجتاحها سوى بينها فللّه درها من جائحة عادلة... أما أولئك الذين غمُّوا شعورهم بطلاء ثم تربعوا على كرسي منصوب على جماجم الشعب مازال الشيب ينخرهم من الداخل ويضطرهم إلى المضيق حتى يُسَكِّن حركتهم ويطردهم من عالم والحياة. معلومة ترددت كثيرا في نشرها خوفا على أصحاب القلوب الضعيفة ومرضى السكر والدم والاعصاب وخوفا من اتهامي بالتطبيع وعندما أنهيت الكتابة قررت أن أزرعها فيما كتبت لكني لم أجد لها موقعا فحيثما فتَّقت النص ودسستها كانت نشازا اضطررت في الختام أن أختم بها النص والسلام والمعلومة مفادها "أنّ "السيدةةةةةة" غولداماير لم تسبغ ولم تخضب ولم تلوّن وماتت بشيبها ودفنت به رغم أنّها منتخبة من شعبها ورغم أنّها أتمت دورتها وأفسحت.. ورغم أنّها هتكت ستر زعاماتنا وتركت لهم الملك ونزعت أملاكهم ثم وطدت ملك بني إسرائيل ورغم أنّها كانت شديدة على الخارج ذليلة على الداخل عكس زعاماتنا الأذلاء على الخارج الأشداء على الداخل ورغم أنها كتابية مثلما تحل لها ذبيحتنا يحل لها تخضيبنا ورغم أنّ بعض أحاديث الشيب من الإسرائيليات إلّا أنّ غولدا استحت من شعبها وتركت صبغتها لمن لا ولم ولن يستحوا من شعوبهم".