تحل اليوم 12 ماي 1881ذكرى معاهدة باردو أو معاهدة قصر السعيد الموقّعة بين حكومة فرنسا ممثلة في الجنرال "بريار" وباي تونس محمد الصادق باي، ودشّنت هذه المعاهدة "حماية" فرنسا على البلاد التونسية أي بداية الاستعمار الفرنسي. وقد أعطت هذه المعاهدة لفرنسا حق الإشراف المالي والخارجي والعسكري في تونس، وحق تعيين مفوّض فرنسي في مدينة تونس، مع محافظة الباي على مركزه، محتفظا بسلطة التشريع والإدارة، لكن كل القرارات لا تكون نافذة إلا بقبول المقيم العام الفرنسي. وقد وضع الاستعمار الفرنسي كلكله على تونس في قرن شهد تدشين البلاد لمرحلة هامة من التحديث شهدتها المنظومة القانونية (عهد الأمان والدستور وإعلان تحرير العبيد) والمؤسسة التعليمية (المدرسة الحربية بباردو والصادقية) مثلت انطلاقة حركة إصلاحية منفتحة رائدة في العالم الإسلامي ولها رموز مؤسّسون ومنظّرون. ورغم أنّه كان هناك سبب اقتصادي مباشر لانتصاب "الحماية" في تونس، إلاّ أنّه كان هناك أيضا شعارات حضارية وثقافية مهدت لغزو تونس صرّح بها مبشّرون وكتّاب ورحّالة. فقد لعب الكاردينال شارل لافيجري (1825-1892) دورا أساسيا في التمهيد للحماية الفرنسية في تونس (راجع عبد المجيد الشرفي، الحركة التبشيرية في تونس، حوليات الجامعة التونسية، العدد الثامن، 1971). ويشير خالد المنوبي أستاذ الاقتصاد السياسي، في كتابه الصادر سنة 2020 "كتابة جديدة للتاريخ التونسي والعربي"، إلى أنّ أوروبا الغربية عند قيادتها الرأسمالية الاستعمارية نظرت إلى المغرب العربي باعتباره فريسة في أواخر القرن الثامن عشر، فجاء حديثها وقتها عن الدول البربرية، في انتحال معاصر لاحتقار الرومان للشعوب المحيطة بإمبراطوريتهم في الشمال وفي الجنوب التي أطلقوا عليها تسمية البرابرة التي تفيد في لغتهم الهمج والمتوحشين. كما انتحل الأوروبيون المستعمرون "صفة معلّم الحداثة لدى هذه الشعوب، غير أنّهم في الواقع نخّاسون ومسيحيّون أو ملحدون وبيض"، وفق تعبير المصدر نفسه. وهو ما ذهب إليه أيضا محمد مزالي، في مقاله "محنة التجنيس والحركة الوطنية التونسية" (مجلة الهداية سبتمبر 1983)، حين اعتبر أنّ فرض نظام الحماية إنّما هو في الواقع بداية الحرب الصليبية التاسعة التي ترمي إلى إعادة تونس أرضا وشعبا للسلطة الروحية للكنيسة المسيحية. ولذلك عمل الحضور الفرنسي على ضمان تركيز أسس مجتمع جديد يتلاءم مع حماية مصالح الاستعمار وضمان وجوده وبقائه في تونس. ومن أهمّ عناصر هذه الخطة فرض الثقافة الفرنسية على الشعب التونسي. محمد مزالي: فرض نظام الحماية هو في الواقع بداية الحرب الصليبية التاسعة التي ترمي إلى إعادة تونس أرضا وشعبا للسلطة الروحية للكنيسة المسيحية. ورغم أنّ الحضور الأوروبي "الحداثي" كان موجودا في تونس عبر قوى استعمارية كان لها نفوذ سياسي مثل فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، وكان التطلع المحلّي إلى وضع أسس رؤية جديدة للتقدم دُشّنت من خلال عدد من القرارات والإجراءات، فقد وقف الاستعمار الفرنسي عقبة أمام ذلك الإنجاز، رغم إعلان نوايا بعكس ذلك. وفي هذا الصدد يشير المؤرخ الهادي التيمومي، في كتابه "تونس والتحديث"، إلى أنّ أوروبا شجعت تونس على إرساء حياة دستورية لأنّ ذلك يوفر الأمن وييسّر شروط الاستثمار الاقتصادي في تونس لمواطنيها، لكنّ فرنسا هدّدت بعد ذلك باستعمال القوّة إن لم يعلّق الباي العمل بالدستور غداة اندلاع انتفاضة علي بن غذاهم سنة 1864، لأنّه تبيّن لها أنّ الدستور وضع عراقيل أمام تدخلها في الشؤون التونسية. كما أنّ فرنسا اتعظت من محاولة محمد علي باشا التحديثية في مصر والتي كادت أن تنجح لولا التدخل الأوربي بالقوة في آخر لحظة، ولذلك لن تقبل أوروبا أن تتحوّل تونس إلى كيان اقتصادي وعسكري مستقلّ". ويصف الطاهر الحدّاد الإعلانات الأوروبية حول الحرية بكونها تشريع للاستعباد، إذ يقول في خاطرة بعنوان "أوروبا والحرية"، مدوّنة بتاريخ ماي 1933: "الحرية التي تفتخر بها أوروبا اليوم هي انطلاق أيدي الحائزين في استغلال عمّالهم، ومع ذلك يقال إنّ الرقّ لم يبق موجودا". ويفضح الحدّاد في مقال آخر زيف شعارات الاستعمار الفرنسي "المتمدّن" الذي يطلق العنان لحرية الصحافة للفرنسيين ويمنعها على التونسيين، قائلا: "هذه الصحافة هي التي يجب أن تبقى حرّة في نهش لحومنا لأنّ الحرية حقّ طبيعي لها، ولأنّ المبادئ الفرنسية قائمة على حرية الصحافة، غير أنّ هذه المبادئ يلزم أن لا تنطبق على (الأهالي المحميّين) لأنّ تمدينهم متوقف على منع هذه الحرية عنهم. وفعلا فقد طبقوا هذا المنع على الصحافة التونسية بأوامر عليّة صدرت في ظروف مختلفة. وبذلك أصبح وجودها معلقا على المشيئة المطلقة للسفارة الفرنسية، وهي بعد وجودها تعيش تحت قرار التحجير في كل حين وبلا قيد ودون محاكمة أو بيان السبب"(مقال الصحافة التونسية مهددة بتحريش صحف الاستعمار). وقد أطلق المقاومة الأولى لاتفاقية الباي مع الفرنسيين إمام عبّر عن موقفه بقصيدة دفع حياته ثمنها. فقد كتب الشيخ علي الشواشي الباجي إمام الخمس بجامع باردو إثر توقيع المعاهدة قصيدة بعنوان "يا مدّعي الصدق"، وبسببها زجّ به في السجن حتى وفاته، وقد جاء فيها: يا مدّعي الصدق بين العُجم والعرب ... لقد تحوّلت من صدق إلى كذب هل مسّك الضرّ أو لاحت طلائعه ... على سما قصرك الموعود للّعب أم غرّك النذل واستولى عليك بما ... تراه مصلحة في عقلك الخرب بعتَ الورى للعدى بخسا بلا ثمن ... تبّت يدا البائع الملعون في الكتب آهٍ على سنجق الإسلام مزّقه ... علج تمرّغ في الفحشاء للرّكب لهفي على تونس الغراء باكية ... يهيم أبطالها في الأبّ والحطب. ويفسّر خالد المنوبي العلاقة بين الحاكم الفرنسي المستعمر وباي تونس على النحو الآتي، إذ أنّ فرنسا جمهورية "الحرية والمساواة والأخوة" (شعارات الثورة الفرنسية) اعتمدت باي تونس واجهة لتحقيق مطامعها وحمايتها بكل الوسائل، ولم تسع بالمرّة إلى إحلال الحرية والمساواة والأخوة بتونس، "بل جاءت لتمارس الإرهاب على الشعب التونسي في أرضه بواسطة مخادعة قانونية، واقترفت ما اقترفت باسم عاهل فرضت عليه معاهدتين قمة في اللا مساواة بل هي كانت تخرق طيلة حمايتها المبدأ المؤسس شكلا لجمهوريتها والمتمثل في حق التمرّد على الطغيان". ورغم انقضاء أكثر من 6 عقود على مغادرة الاستعمار للتراب التونسي فإنّ الدولة الفرنسية لم تعتذر عن جرائمها زمن الاحتلال المباشر وبعده، مثلما لم تعتذر عن المجازر ضد الإنسانية التي ارتكبتها في حق الجزائريين وفي غيرها من المستعمرات، بل حافظت هذه الدولة الاستعمارية على ارتباطها بالمستعمرات السابقة عبر النخبة المنتصبة بعد الاستقلال التي استنسخت، لتأبيد سلطتها، ما يصلح لها من الأدوات الفرنسية لمصادرة "حق التمرّد على الطغيان".