تشير احدى البرقيات التي نشرت على موقع ويكيليكس قبل اشهر قليلة من هروب الرئيس التونسي المخلوع بن علي من بلاده في اعقاب موجة احتجاجات غير مسبوقة، الى عشاء فاخر جمع صيف العام 2009 روبرت غوديك السفير الامريكي المعتمد في العاصمة تونس في ذلك الوقت بصخر الماطري صهر بن علي، وأحد اقوى المرشحين السابقين لخلافته، وذلك بمنزله المطل على البحر بالحمامات. في البرقية اسهاب في الحديث عن تفاصيل صغيرة من قبيل ان ‘المكان كان يمتلىء بالاشياء' و'بتحف فنية قديمة من اعمدة رومانية ولوحات جصية ورأس اسد تنبع منها المياه وتصب في بركة'. كما لا تغيب عنها ايضا ملاحظة السفير بان ‘للماطري نمرا ضخما يسمى باشا، في قفص بمنزله وهو في حوزته منذ ان كان عمر النمر اسابيع ويتناول اي النمر، اربع دجاجات يوميا'، كما يوجد وصف لقائمة الطعام المعروض ومنها ‘الايس كريم والزبادي القادم من سانت تروبيه على شاطىء الريفيرا الفرنسي'. المعطيات الدقيقة حول الثراء الفاحش وحياة البذخ التي كان يعيشها صهر الرئيس وافراد عائلته لا تتضمن في المقابل على تنوعها واغراقها الشديد في كثير من الجزئيات، معلومات بشأن قطعة اثرية نادرة هي قناع ‘غورغون' الذي سلمته السلطات التونسية الى وزيرة الثقافة الجزائرية خلال زيارتها الاخيرة الى تونس. والقناع المذكور هو تحفة فنية واثرية تعود الى العصر الروماني تم نهبها عام 1996 من متحف هيبون قرب مدينة عنابةالجزائرية ليعثر عليها في الاسابيع الاولى التي تلت هروب بن علي في احد منازل صهره صخر ضمن عدد من التحف والمقتنيات النادرة والثمينة. ومن المؤكد ان الديبولوماسي الامريكي سوف لن يعدم حيلة او عذرا ليبرر عدم انتباهه الى القناع المسروق او معرفته به في تلك السهرة الملكية الفاخرة. لكن الحقيقة التي لن يستطيع تجاهلها او الاستمرار طويلا بانكارها، هي انه كان على علم تام ومسبق بالفساد المستشري في تونس وبحالات النهب والسلب التي كانت تمارسها العصابة الرئاسية ومن دار في فلكها على جميع ما تقع عليه ايديها من مصادر الثروة والكسب السريع والمشبوه. ولعل ما يذكره تقرير حديث اصدره البنك الدولي في السابع والعشرين من اذار/مارس الماضي من ان ربع ارباح القطاع الخاص في تونس كانت تحتكره عائلة الرئيس المخلوع بن علي، بفضل تشريعات وانظمة وضعت خصيصا لحماية مصالحها من التنافسية، ليس سوى جزء بسيط من تلك الحقيقة الصادمة والمنسية لان ما خفي كان بالقطع أعظم. الصهر الشاب الذي لم يتجاوز بعد عقده الثالث، يستمتع الان بقضاء عطلة في جزر السيشيل ذات الطبيعة الخلابة بعد ان مددت له السلطات في الخامس والعشرين من اذار/مارس الماضي تصريحا للاقامة في اراضيها لمدة عام اخر بحجة انه ‘يمكن ان يتعرض للاضطهاد ولن يحظى بمحاكمة عادلة في تونس′ اين تلاحقه احكام بالسجن بتهم الفساد والاختلاس وتبييض الاموال. قرار السلطات السيشيلية لم يحدث ادنى ضجة تذكر، والمساحة التي أخذها خبر نشره في الصحف التونسية لم يتجاوز الاسطر القليلة. ما تبقى بعد ذلك هو فقط ما يعلمه معظم التونسيين من ان الدولة قد صادرت معظم ممتلكاته في البلاد مثل غيره من افراد العائلة. لكن ما يلفت الانتباه الان في تونس، بعد كل ما جرى هو ان الحديث عن ذلك الزمن الاسود الذي لم يمض عليه سوى بضعة اعوام فقط، لم يعد يجذب نفس القدر من الاهتمام عدى ما تبديه فئة محدودة بين الحين والاخر من مشاعر حنين وشوق الى ايام ‘الزين' بثقة وتبجح. شيئا فشيئا وبمرور الايام يسقط التونسيون في حالة قد لا تختلف كثيرا عن تلك التي يصاب بها مرضى الزهايمر، اذ تضعف ذاكرتهم ويصيبها التلف، مما يجعلهم يتوهمون الماضي صفحة ناصعة البياض لم تتلطخ بعد بالجرائم والمآسي. يقودهم الى ذلك هذا الغموض الذي يلف الحاضر والمستقبل ويلقي ضبابا كثيفا على واقع اختلطت فيه الامور لتنقلب الادوار بشكل سريالي مفزع جعل الضحية جلادا والجلاد حملا وديعا لا اثام له ولا جرائر وكل ذلك تحت لواء هذه المصالحة الصعبة وهذا الوفاق الوطني الثمين. لقد وصفت وزيرة الثقافة الجزائرية عملية السطو على قناع ‘غورغون' في التسعينات بانها بمثابة' الخنجر في الظهر'، حيث ‘نهبت اثار الجزائر في نزيف تراثي حقيقي عندما كان هذا الشعب يجاهد للحفاظ على هويته ووحدته'. ما يحصل الان في تونس يفوق ذلك خطورة ومرارة لان الامر لم يعد متعلقا بنهب الاثار فحسب، بل هناك نهب سرطاني واسع لما تبقى من ذاكرة التونسيين وسط غبار قصف اعلامي متواصل وانشغال تام ومحموم بمصير جيوب يتهددها شبح الافلاس وصناديق اقتراع تبحث باكرا عن الاصوات. تبادل الاتهامات هنا حول المتسبب في وصول البلد الى هذه الحالة يمنح املا جديدا لكل المجرمين بان تطمس بشكل نهائي اخر المعالم الباقية لجرائمهم من خلال مساواتها بالاخطاء التي ارتكبها اسلافهم في مراحل الانتقال الديمقراطي التي تلت رحيلهم. والاشكال الحقيقي الذي قد تجد تونس نفسها بمواجهته قريبا هو ان كان الانطلاق نحو المستقبل مفتوحا وممكنا بذاكرة معطوبة. لقد كانت نهاية حكم بن علي بحسب مجلة ‘فورين بوليسي' اولى ثورات ويكيليكس، وقد يكون اصلاح ذاكرة التونسيين بعد ذلك اولى ثوراتهم واكثرها مشقة وصعوبة. عن القدس العربي