منذ كنت طالبا جامعيا، وأنا أسمع عن صفقات ومساومات تتم بين النهضة التي كانت تسمى في تلك الايام بحركة الاتجاه الاسلامي، وبين النظام الحاكم ممثلا في الحزب الدستوري الذي أصبح التجمع الدستوري الديمقراطي. كنت أسمع لغطا قويا في هذا الصدد، ولكني كنت أرى عكسه تماما، ففيما كان المتهمون بعقد الصفقات يزج بهم في السجون، وينكّل بهم أشد التنكيل ويتعرضون الى المضايقات في أقل الحالات، كانت الصفقات تعقد للحقيقة مع الطرف الذي كان يتهم بها حركة النهضة. وهم طابور متعدد الأشكال والأهواء والمرجعيات منها جزء من اليسار الذي لا يخفى على أحد أنه تحالف تحالفا متينا مع التجمع الدستوري الديمقراطي، وأنه اضطلع بوزارات وفتحت أمامه أبواب الادارة ومجالات على غرار المحاماة، والقضاء أما ثقافيا فقد كان اليسار هو رمح تلك السياسة وطليعتها على الاقل خلال العشر سنوات الأولى التي تلت ال 7 من نوفمبر. فقد كانت تلك السنوات شهر عسل متواصلا بين مكوّنات ذلك الطابور، وبين السلطة الحاكمة. الآن يعود ذلك الطابور الى اسطوانته الأولى، ويزعم بالصوت العالي ان حركة النهضة عقدت صفقة جديدة مع الدستوريين بجميع أحزابهم الممتدة من نداء تونس الى الحركة الدستورية. وأن بداية تلك الصفقة نُسجت خيوطها منذ لقاء باريس بين السيد الباجي قائد السبسي والأستاذ راشد الغنوشي، مدّعين ان أطرافا خارجية كانت وراء ذلك اللقاء بل واشترطته ايضا وهذا الكلام هو من باب الهراء فلا يوجد اي طرف خارجي شجّع عليه او خطط له او تمناه خصوصا الطرف الفرنسي فالذي لاحظه كل متابع للحياة السياسية هو أن جميع المحسوبين على فرنسا صوّتوا مع قانون الإقصاء الذي كانت الغاية الأولى منه هي إزاحة الباجي قائد السبسي من الحياة السياسية والوطنية ككل حتى الجبهة الشعبية حليف النداء الى آخر لحظة، غدر أعضاء مجلسها التأسيسي بالنداء وصوّتوا مع القانون في عملية أذهلت ندائيين كثرا، وأحرجت يساريي النداء وعقدت من أوضاعهم داخل هذا الحزب إن ليس الآن فبعد حين. اذ يبدو أن وراء الأكمة ما وراءها في هذه المسألة بالذات! وليس خفيا أن الطرف الدولي الذي دعا التونسيين الى الوفاق وشجعهم على الحوار ونزل بثقله لغاية استقرار تونس هو الولاياتالمتحدةالأمريكية التي من حقنا ان نتذكر الآن أنها صفّت قديما الاستعمار ووقفت مع القضية التونسية وأرسى رئيسها «ويلسن» مبادئ جديدة قادت العالم بعد الحقبة الاستعمارية. ولكن هذا الطرف بدوره لم يكن وراء لقاء الزعيمين الأبرز الآن في تونس في باريس فهو لا يعمل بهذه الطريقة، ثم إن اللقاء أتى بعد وساطات شخصية وطنية صرفة رأت من السبسي والغنوشي استعدادا لانقاذ تونس من مآلات ونهايات صراع عبثي لا طائل منه ولا يستفيد منه إلا الصغار الذين تبخّروا فتمترس بعضهم وراء النهضة واختفى بعضهم وراء النداء. فكأن الصفقة التي تمت بين الطرفين هي كيفية انقاذ تونس لا تقاسمها ونجدتها لا للتلاعب بها، وذلك عبر الرهان على احترام قواعد اللعبة الديمقراطية وتلطيف الأجواء بين الخصوم وتجاوز الأخطاء الحاصلة. هذه هي الحقيقة كاملة وغير هذا حديث إفك قديم نعرفه حق المعرفة ونعلمه حق العلم ووقفنا خلال عقود على ما قاد اليه من تناحر كانت الأطراف التي تدعي البراءة والطهارة الثورية هي التي تتمعش منه ولطالما تمعشت منه وهي الآن لا تستطيع ولا تخطط الا الى التمعش منه. فغير هذا هي لا تستطيع الى أي شيء سبيلا! إن العاقل من يتعظ! عبد الرؤوف المقدمي