أن تتعطّل المرحلة الانتقالية وتتعثر وتبالغ في البطئ ، خير من استعجالها وتقديمها إلى الشعب في وصفة ملوثة سرعان ما يكتشف الجميع أنّها عملية إجهاز وليست إنجاز ، وأنّ الذين أشرفوا عليها خيانتهم كانت جدّ موصوفة. لم تنحصر تداعيات عشريّة الجزائر الحمراء في حدود 200 ألف قتيل وآلاف المفقودين ولم تقف عند الأمراض والعاهات التي خلّفتها داخل المجتمع ولا هي اكتفت بما لاقته آلاف الأسر من تفتت توزع بين الفاقة واليتم والترمل، فالمصيبة كانت أشمل وأعمّ وضربت مؤسسات المجتمع المدني في العمق وعصفت بالحياة الحزبيّة في البلاد . لقد استجاب الشعب الجزائري لدعوة الحراك ونشّط الشارع بشكل كبير ومثير للإعجاب وتدافع نحو الانتخابات البلدية والتشريعيّة ثم شرع بعد وقت يسير من انجازه في دفع فاتورة الجيش المتسلط والانتهازيّة العلمانيّة والبداوة الإسلاميّة التي فشلت في استثمار الانتصار العريض الذي أهداه لها الشعب ، عرضت الأحزاب نفسها على الشعب فوهب للجبهة الإسلاميّة للإنقاذ ثقته وابتسم لجبهة القوى الاشتراكية ، حجّم جبهة التحرير وصفع العلمانية المتطرفة ووضعها في حجمها الحقيقي بعيدا عن النعيق النخبوي المعزول والضجيج الإعلامي المفتعل. .شارف المشهد الأول الذي صنعه الجزائريون على النهاية وحين تعثر أعطى الشعب المقود للنخبة كي تدير الأزمة وتصوب الخطأ فكانت الكارثة ، جيش انقلب على الخيار الشعبي ، علمانيّون حشدوا لتأيّيد الانقلاب وللمطالبة بديمقراطيّة استثنائيّة تقتصر على البعض دون الآخر ، وجبهة إسلاميّة تحللت أطرافها وسرعان ما تنازعت فيما بينها واتضح أنّ الحساسيّات الفكريّة والدعويّة والفقهيّة الغير متجانسة والتي جمعتها نفحات انتفاضة 88 وأحلام فيفري 89 بمسجد السنة بباب الواد غير قادرة على الصمود أمام أول أزمة حادّة تطلبت الاستنجاد بالإرث السياسي أكثر بكثير من استنجادها بالإرث الفقهي ، ثم كانت النكسة التي ستصيب الحركة الإسلاميّة لاحقا في مقتل وهي قبول حركة مجتمع السلم حماس "حمس فيما بعد" المحسوبة على تيار الإخوان بشرعنة الانقلاب وتثبيته ورضيت الحركة بلعب دور الشريك الإسلامي على غرار حزب النور في مصر وقبلت أن تحتل مكان الحزب الذي فاز في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعيّة بمجموع 182 صوتا في حين لم تفز حماس بأي صوت وساهمت بذلك في طمأنة الرأي العام الداخلي والخارجي وأعطت للانقلاب جرعة من التهدئة والاستقرار. اليوم وحين يتجول الواحد في الشوارع الجزائريّة ويحتك بالناس سيلحظ النفور الغريب من النخب والأحزاب والزهد اللامحدود في الساسة والسياسة ، والثقة التي تكاد تكون منعدمة في جلّ العائلات السياسيّة ، أمّا حركة مجتمع السلم وحال التعرض لاسمها أو اسم أحد قياداتها يبادرك الجميع " حماس خاوتهم مرميين في رقان وسركاجي وهوما يتقاسموا في كراسيهم" ، مع سيل آخر من التعليقات والمؤاخذات الطويلة والمؤلمة ، وباستجماع كل ذلك وبإطلالة على الأحداث سوف يحصل اليقين أنّه كان الأجدر بحمس أن تدين العنف والتقتيل مهما كان مأتاه وتنأى بنفسها عن هذا وذاك مع المواظبة على إدانة الانقلاب والانقلابيّين وعدم الملل او الخوف من ذلك ، الكثير يردّدون اليوم بحسرة وتغازلهم الأماني ، ماذا لو نبذت حمس العنف وتمسّكت برفض الانقلاب وصبرت على موقفها لشكّلت في هذع المرحلة الملاذ المقنع والجذاب لغالبية الشعب الجزائري بإسلاميّيه ووطنيّيه. لماذا استدعاء التجربة الجزائرية الآن ؟ والحال أنّنا في تونس أمام صورة مغايرة لما حدث في الجارة الشقيقة والحركة الإسلامية الوسطية فازت وحكمت في تونس في الوقت الذي تمّ استعمالها في الجزائر وانتهت الى أرقام تحاول بتعاث نفسها من جديد في عملية تبدو شاقة وطويلة ، والأمر في تونس لا يتعلق بنوعيّة التجربة بل بمصداقيتها وخطورة المناورة بالثوابت الأخلاقيّة والالتفاف على إرادة الشعوب تحت تعلات الواقعيّة والمرحليّة والتدرج والمراعاة ، لقد انتحرت حركة حمس حين شاركت في تثبيت الانقلاب ورضيت أن تكون سارية من سواريه وبعد أن انتهى دورها وهضمها الانقلاب تخلص من عبئها واختار له حلفاء آخرين يتناغمون معه فكريّا وثقافيّا وسياسيّا، وراهنت حماس على ضعف ذاكرة الشعوب وأثبت الجزائريّون أنّهم يتذكرون الصورة جيدا بل يستحضرونها بتفاصيلها. وإن لم تكن حركة النهضة قد وُضعت في فوهة هذا الابتلاء الخطير الذي مرّت به الحركة الإسلامية في الجزائر فإنّها تواجه ابتلاء من نوع آخر ، فيه إمكانيّة الالتفاف والتحايل والتحالفات المسقطة والصفقات الموبوءة التي ما خالطت حركة إسلاميّة إلا وأَذْهبت سمتها وطمست رياحها بعد إذ هبت ، وما يتهدد النهضة ليس علاقتها تجاه سلطة انقلابية مثل ما وقع في الجزائر لأنّها هي من تباشر السلطة ، وإنّما تجاه الأزلام والفلول وأدوات الجريمة التي نكّلت بالشعب على مدى أكثر من ست عقود ، وعلى قيادات النهضة وصنّاع القرار فيها أن ينتبهوا إلى أنّ ذاكرة الشعب وحواسه وقنواته لم تكن يوما مفتوحة ومنتبهة ونشطة مثلما هي عليه اليوم وأنّ جريمة الاشتراك في ترقية وتأهيل منظومة الإجرام بعد أن أسقطها الشعب سوف لن يكون من السهل امتصاص تداعياتها وترميم شروخها بعد أن تذهب نوبات المراحل الانتقاليّة وتأخذ الديمقراطيّة مسالكها السليمة ويطمئن الشعب ويشرع في غربلة المراحل السابقة برويّة وبعيدا عن الضغوط المصطنعة. من البديهي أن لا تستسلم حركة ولّدت مؤسّساتها بشقاء وعلى مراحل وفي أجواء السجن والتعذيب وروائح الموت تطوف بها منذ أن أعلنت عن نفسها ذات يوم من أيام جوان 81 ، من البديهي أن لا تنكفئ الحركة التي محّصتها المحن وغربلت صفوفها الأولى بدقة وتستسلم إلى كل الآراء وكل الأصوات وكل الأفكار ويصبح جهازها ناقلا وناسخا للأفكار والآراء وليس ناتجا لها ، وهي تعلم يقينا أنّها هنا لمهمة سامية وان المؤسسات أنتجتها القواعد ليس للسمر والترويح والسباحة وركوب الخيل وإنّما للتسيير والتصدي للمعضلات ومغالبة المصاعب والمشاكل واتخاذ القرارات في جميع المسائل العالقة والعارضة ، فحركة تجر إرثا مرصعا بالشهداء والأرامل والأيتام والدماء والمتاعب والمحن وتحتضن مخزون حركات الإصلاح الجادة التي تركت بصماتها في بلادنا على مر العصور ، لا يسعها أن تتلعثم أمام احتجاجات صفوفها وتعزف عن اتخاذ القرارات حين يجب أن تتخذها ، بالمقابل على المؤسّسات التي صعّدتها قواعد الحركة أن تستحضر في مجمل قراراتها أن هذه القواعد أهّلتها بموجب عقود ومواثيق وبرامج ومناهج ولم تعطها حزمة من الصكوك البيضاء ولم تصدرها لقيادة حركة سياسيّة جافة هدفها جني الأرباح "بوه على خوه" وإنّما كلفتها بإدارة حركة سياسيّة إصلاحيّة تطرح نفسها كبديل حضاري وليس كبديل سياسي آني قابل للاستهلاك السريع وصالح للاستعمال الوقتي. من الأشياء الخطيرة التي تواجه النهضة أنّ بعض رموزها صنعوا فكرة "ملّسوها" وأقروها ثم تلبسوها ويحاولون ترويجها كحقيقة ثابتة بل كمعادلة رياضة تصنّف ضمن المسلمات ، هذه الفكرة مفادها أنّ نجاح التجربة الديمقراطيّة في تونس يجب أن يتم بإشراك المعارضة في جميع القرارات التي ترجع بالنظر إلى المؤسّسات المنتخبة وأنّ الشريك الأول يجب أن يكون التجمّع الدستوري الديمقراطي المنحل المتواجد على السّاحة بمسميات أخرى ، وأنّه في حال تعذر الوصول إلى التوافق بالمناصفة بين المعارضة والشرعيّة فلا بأس من النزول عند رأي التجمّع ودولته العميقة ومراكزه الماليّة والإعلاميّة ، لابد لبعض السادة الوجهاء داخل المؤسسات أصحاب السمو الفكري الذي عجزت العامّة عن استيعابه ومسايرته أن يقتنعوا بأنّ التجارب السياسيّة ليس مكتوبا عليها أن تنجح الآن وليس الغد وأنّ الأقدار ستستجيب حتما لقرارات النجاح الفوريّة ، لابد ان يتفطن هؤلاء الى أن الاجتهادات نسبية وان الأقدار تصرف بعيدا عنهم وان خير بلادنا لا ندريه أهو في يومها ام في غدها وان الأسباب بأيديهم والتوفيق بيد خالقهم ، يجب ان يعلم هؤلاء أن الحركة غير مجبورة على بيع مخزونها الاستراتيجي ورهن ثوابتها والتفويت في لونها الذي الفته الأجيال لكي تتجاوز الصعوبات وتحقق الألفة المزعومة وتستميل قراصنة السياسة. من أجل العبور إلى غد أفضل يجب علينا أن نضاعف من عطائنا وصبرنا ونفسح للتضحيات ونستنفر حواس التركيز والانتباه ونقضم من الوسائل والأدوات لصالح الأهداف السامية ، لكن من العبث أن نعمد إلى مبادئنا وسمتنا وعصارة الطريق الطويل الذي قطعناه والأمانة المتخلدة بذمتنا وعهدتنا التي عاهدنا عليها من قضى فنقدم كل ذلك قربانا لنستعجل الخروج من أزمات مرّت بها جميع الشعوب حين كانت تكدح في طريقها نحو دولة القانون والمؤسّسات. بحكم ما أوجبه العمل المؤسّساتي المحترف تملك اليوم قيادات النهضة مساحة طويلة عريضة للفعل ، فهي مدعوة إلى الحوار والتفاعل والتنازلات والقبول والرفض والمدّ والجزر ، يمكنها أن تقرر وتستأنف، أن تعزف وتقبل ، تشارك وتنحاز ، وفي سبيل تجاوز الأزمة وامتصاص التوتر يمكنها الحديث إلى جميع الأطراف بدون استثناء حتى خفافيش الدولة العميقة ومراكز القوى المسرطنة ، فقط غير مسموح بأن يصحو الشعب يوما يجد الحركة ذات التاريخ النضالي المشرّف وقد تحوّلت إلى مسحوق مطهر يقدم لتونس ذئاب وضباع التجمّع في شكل حملان ، من ضروب الانتحار أن تباغتنا النهضة يوما بقرار يقضي بالدخول في شراكة إستراتيجية مع التجمّع من أجل بناء الغد المشرق لتونس ، جناية مغلظة أن تنجح ماكينة بن علي في استصدار بطاقة عدد 3 بيضاء ناصعة ، في عهد من؟في عهد النهضة والمؤتمر في عهد الغنوشي والمرزقي وعبو والعيادي.. على القواعد التي ما فتئت تتململ هنا وهناك أن تضع في حسبانها أنّ للنهضة مؤسّسات وأنّ هذه المؤسّسات تمّ تفويضها لإدارة المرحلة ولها ذلك بأريحية ، وعلى مؤسّسات النهضة أن تضع في حسبانها أنّ التفويض تمّ على المبادئ الأساسيّة للمشروع الإصلاحي الشامل ولا يشبه في شيء تفويض 30 يونيو للسيسي ، ولا تفويض البايات لفرنسا. "وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا.." مجموعة من الفعاليات الشبابية النهضوية