عادت لتطفو على السّطح، ماسمّي بقضيّة برّاكة الساحل، بعد عقود من التّشويه، فُتح ملفّ القضيّة بطلب من مجموعة من العسكريّين المتّهمين في القضيّة المزعومة، بالاعداد لمحاولة انقلاب على السّلطة، فتوجّهوا إلى القضاء بعد الثّورة مباشرة، آملين أن ينصفهم وتردّ اعتبارهم المؤسّسة العسكريّة بعد سنوات من الجمر والظّلم. قدّم العسكريّون قضيّة ضدّ جلّاديهم بتهمة التّعذيب الشديد دون موجب أو دافع، ضدّ المخلوع بن علي، وعبد الله القلال وعدد من الأمنيّين الذين مارسوا عليهم العنف والتّعذيب. شهادات صادمة الضابط الهادي القلسي، أحد المتّهمين في قضية براكة الساحل، تمّ اعتقاله يوم 23 ماي 1991، بطريقة غريبة حيث لم يتم اعلامه بأي شيء عن القضيّة أو التّهمة المنسوبة اليه الا بعد أيام من الاعتقال والتّعذيب. “القلسي” أكّد في شهادته أنّ عبد الله القلال كلّفه بمهمّة آمر فصيل التنظيم و التخطيط والبرمجة لأركان جيش البرّ قبل إعتقاله بسنة، وأكّد القلسي أنّه لم تكن تربطه بالمجموعة العسكريّة المتّهمة أيّ علاقة ولا قرب لا فكري ولا سياسي. وكغيره من زملائه الضبّاط المدفوع بهم في القضيّة، روى القلسي تفاصيل عمليّة تعذيبه من قبل أمنيّين بأمر من عبد الله القلال الذي كان يشغل منصب وزير داخليّة حينها. مشهد التعذيب ضلّ راسخا ومرافقا لمجموعة الضّباط الذين لم يفهموا إلى حدّ اليوم سبب اعتقالهم، ولعلّ جزءا هاما من القضيّة قائم على سؤال الضّحايا لجلّاديهم عن سبب التّنكيل بهم.
الهادي الفرجاني، نقيب بحري سابق، وأحد ضحايا قضيّة برّاكة السّاحل، تمّ اعتقاله يوم 19 أفريل 1991، من منزله ليلا، وتمّ توجيه تهمة الانتماء إلى مجموعة مسلّحة، وقد أكّد الفرجاني في شهادته أنّه لم يكن على علاقة بأيّ من المتّهمين من المؤسّسة العسكريّة، وأضاف الضّابط الفرجاني أنّه عاين خلال اقعتقاله في دهاليز الدّاخليّة، وفاة أحد المتّهمين في القضيّة، من الزنزانة رقم 5 حسب تعبيره، تحت تأثير التّعذيب.
سالم كردون، العميد المتقاعد، ضحيّة أخرى في قضيّة براكة الساحل، تمّ اعتقاله في ماي 1991، وأودع في مركز الايقاف بوشوشة، تعرّض للتعذيب والتّنكيل لإجباره على الاعتراف بمشاركته في اجتماع قيادات عسكريّة، في منزل ببراكة الساحل والتخطيط لعمليّة انقلابية على نظام بن علي. يقول سالم كردون في شهادته أنّه تعرّض للتعذيب من قبل أعوان أمن الدّولة طيلة فترة الاعتقال حيث تمّ تعليقه وصعقه بالكهرباء، في مناطق حسّاسة من جسمه “أعضائه التناسلية”، مما تسبّب له تمزّقا على مستوى الخصيتين، حرم بسببه من الانجاب، بالاضافة إلى ثقب في أمعائه، واصابته بقصور كلوي حادّ.
فصل آخر من فصول مظالم بن علي لا تزال حلقاته الأخيرة مستمرة إلى اليوم، فلا أحد اعترف بتزييف التّاريخ وتشويه العديدين ممن قُلبت حياتهم بين عشيّة وضحاها، ليدفعوا ثمن ذنب “مفبرك”، ومزيّف. ولا أحد اعترف بأحقية جماعة “براكة الساحل” أو مظاليم “براكة الساحل”، في ردّ إعتبار لهم بعد كلّ ما طالهم من تعذيب وتشريد لعائلاتهم ودُفع بهم في سياق معركة سياسيّة افتعلها نظام بن علي.
تبرئة منقوصة في يوم 14اكتوبر 2011 خلال لقاء ضحايا براكة الساحل عبر وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي و الفريق اول رشيد عمار عن استعداد الوزارة لرد الاعتبار والتعويض عما فات، وأكّدا أنّ المؤسّسة العسكريّة مستعدّة لردّ الاعتبار في انتظار سند قانوني من السلطة، وابرز السيد سمير ديلو يوم 8 فيفري 2012 استغرابه من تأخّر الحكومة السابقة أي حكومة الباجي قائد السّبسي، ولامها على عدم ردّها اعتبار ضحايا برّاكة الساحل القضيّة الملفّقة تحقق وعد القائد الأعلى للقوات المسلحة الذي صرح في اول الامر يوم 23 جوان 2012 باعتذار الدّولة للضحايا وعائلاتهم واعترف ضمنيّا بالمظلمة، و يوم 10 ديسمبر 2012 واثناء لقاء تاريخي بقصر قرطاج حضره الضحايا ومرافق لكل عسكري والسّادة وزير العدل ووزير حقوق الانسان والعدالة الانتقالية، والفريق أول رئيس أركان الجيوش الثلاث ورئيس أركان جيش الطيران في يوم مشهود، تحدث يومها رئيس الدولة، منصف المرزوقي في كلمته عن المظلمة والمعاناة التي عاشها العسكريون وطلب من كل الوزارات الاسراع في حلحلة الاشكالات العالقة لاسترداد الحقوق المسلوبة للضحايا.
ويوم 13 جوان 2014، تمّت المصادقة على مشروع القانون 24/2014، المتعلّق بتسوية وضعيّة العسكريّين المتضرّرين من قضيّة برّاكة الساحل، بتصويت 111 نائب دون رفض ودون احتفاظ بالأصوات. وتمّت المصادقة بالمثل على الفصل الثّاني من مشروع القانون المتعلّق بتسوية وضعيّة العسكريين المتضرّرين، في نفس القضيّة، بتصويت 108 نائب، دون احتفاظ ودون رفض، وينصّ القانون على أنّه ” تسحب على المتضرّرين المشار اليهم في الفصل الأوّل من هذا القانون، والذين لم يشملهم العفو التّشريعي العام، أحكام الفصل 2 من المرسوم عدد 1 لسنة 2011 المؤرّخ في 19 فيفري 2011، المتعلّق بالعفو العام والفصلين 32 و33 من القانون عدد 27 لسنة 2012 المؤرّخ في 29 ديسمبر 2012.
في نفس التاريخ، الجمعة 13 جوان 2014، أفاد وزير الدّفاع الوطني السّابق، غازي الجريبي، خلال مداخلته في الجلسة العامّة بالمجلس الوطني التّأسيسي، أنّ قضيّة برّاكة الساحل ملفّقة، أكّد أنّه توجد مظالم لا تحصى ولا تعدّ في هذه القضيّة، واضاف أنّه سيتمّ اعادة الأزياء العسكريّة والشّعارات المسندة لكلّ ضابط من ال244 المتضرّرين في القضيّة.
وبعد الانصاف القانوني واعتراف الدّولة ممثّلة في شخص رئيس الدّولة السّابق، منصف المرزوقي، بأنّ القضيّة ملفّقة لأغراض سياسيّة لنظام بن علي المخلوع، وبالرّغم من تكريم المتضرّرين في قصر قرطاج يوم 24 جويلية 2014، الا أنّ سؤال الضّحايا لم يُجب عنه إلى حدّ اللّحظة. والسّؤال موجّه إلى جلّاديهم والمتورّطين في إعطاء أوامر التّعذيب حينها، وهو لماذا تمّ الزجّ بهم؟ ولماذا عذّبوا بتلك الطريقة البشعة حتى توفّي منهم تحت التعذيب ضبّاط وحرم بعضهم من الانجاب طيلة حياته بسبب ضرر جسديّ خلّفه التعذيب، ومنهم من لم ينسى إلى اليوم مشاهد الاهانة والادانة بفعل لم تقترفه يداه، ومنهم من عزّ على نفسه كيف نزعت منه بدلته العسكريّة وشعاره. ومادام سؤال الضّحايا مطروح دون اجابة ودون الانتصار لحقهم وادانة جلّاديهم على جريمتهم، فإنّ التبرئة تبقى منقوصة.
مسار القضيّة عادت قضيّة براكة السّاحل إلى التّناول الاعلامي والجدل السياسي كما في كلّ مرّة، هي حقّ أريد به باطل. وبعد ماصرّ ح به موسى الخلفي، مدير الأمن الدّاخلي للوحدات العسكريّة، خلال سلسلة حضوره الاعلاميّة الأخيرة عبر الاذاعات والقنوات التّلفزيّة، والذي عاد ليتّهم حركة النّهضة بالوقوف وراء تجنيد العسكريّين المتّهمين في قضيّة برّاكة الساحل، التي بتّ فيها القضاء بحكم ابتدائي وتبيّن أنّها ملفّقة ولا وجود لحادثة مسمّات بالمجموعة الأمنيّة 1991، والتي تقدّم على اثرها وزير الدّفاع بكلمة تحت قبّة البرلمان في محاولة لردّ الاعتبار للضحايا.
موسى الخليفي بدوره طرف في القضيّة، فهو متّهم بممارسة التّعذيب على ضحايا القضيّة الوهميّة “براكة الساحل”، وسيمثل أمام المحكمة الابتدائيّة في تونس يوم 25 أكتوبر 2018 كمتّهم. كذلك من بين الأسماء المتّهمة والتي صدرت ضدّها أحكام قضائيّة في مرحلة أوّليّة، عبد الله القلال وبن علي و غيرهم من الأمنيّين وأمن أدّولة نفّذوا أوامر التّعذيب. وتسعى هيئة الدّفاع عن عبد الله القلال، وزير الداخليّة زمن الواقعة، إلى ابطال القضيّة بالاسقاط الزّمني أي أنّه مضى على الحادثة أكثر من 20 عاما، كما أفاد القلّال أما المحكمة الابتدائيّة بتونس، أنّ قضية برّاكة الساحل كانت تحت اشراف بن علي شخصيّا وأنّه المسؤول الوحيد على تفاصيل القضيّة.
موسى الخلفي، خلال حضوره في قناة التّاسعة في برنامج مسائي، تحدّث عن ماسمّاه بأدلّة ادانة مجموعة الضبّاط، حيث أكّد أنّه تمّت معاينة المنزل الذي اجتمع فيه مجموعة العسكريّين وخطّطوا فيه للانقلاب، حسب شهادة بعض منهم (طبعا تحت التّعذيب)، وقد جاء في حدث “الخلفي”، ما يناقض ادّعائه. فالمكان الموصوف والمنسوبة اليه محاولة الانقلاب واجتماع مجموعة ال244 ضابط المنقلبين فيه، يعتبر أكثر مكان لا يمكن التّضليل فيه أو التمويه عن أيّ فعل، فمنطقة برّاكة السّاحل، يعبرها طريق سيارة وطني، والمنزل مجاور لمنطقة حرس ويقابله مباشرة محلّ مواد عطريّة، وتحاذيه من جهة أخرى محطّة بنزين، والمنزل المزعوم لا يتّسع لأكثر من 10 أشخاص فكيف أوى مجموعة ال244 ضابط كما جاء في الشّهادة المفبركة تحت تأثير التّعذيب؟
في انتظار حكم نهائي يوم 25 أكتوبر الجاري في حقّ الضحايا من ضبّاط الجيش، يبقى الملفّ قابل للطرح الاعلامي من زوايا متعدّدة، وهذا ماجعل بعض المتورّطين في قضايا التّعذيب يحاولون ادانة وتشويه مجموعة الضباط ليجدوا مبرّرا لممارستهم التعذيب في حقّ أبرياء. وفي الحقيقة، لا يمكن لأي مبرّر أن يمحي صورة ضحايا المؤسّسة العسكريّة من المخيّلة الشّعبيّة، ونحن نستمع إليهم على الملأ لأوّل مرّة عبر جلسات هيئة الحقيقة والكرامة العلنيّة، ونسمع تفاصيل معاملة لا بشريّة لنخبة من أسمى المؤسّسات السياديّة في البلاد. لكن، لعلّ الحكم النهائي بإدانة من لطّخ يديه بالظّلم يكون عبرة وخير ردّ اعتبار المظلمين وضحايا الاستبداد.