شجّع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، المشتبه بمشاركتهم في الانتهاكات التي مارستها الدولة التونسية ضد جزء من التونسيين بسبب آرائهم وانتماءاتهم، على القبول بالمثول أمام القضاء بضمانات متبادلة بينهم وبين التونسيين: الاعتراف وكشف الحقيقة والاعتذار، مقابل العفو العام. وقال الغنوشي في كلمته، يوم السبت 27 أكتوبر 2018، أمام المشاركين في الندوة السنوية الثانية لإطارات حركة النهضة: “أدعو البرلمان إلى تبني قانون للعفو العام عن الانتهاكات المرتكبة حال الاعتراف وكشف الحقيقة والاعتذار، على أن تتولى الدولة جبر ضرر الضحايا وعائلاتهم”. وجاء تحميل الدولة مسؤولية جبر الضرر، تأكيدا لاعتبار الدولة هي المسؤول الأول عن إدارة الانتهاكات، لا الموظفين، وفي ذلك رسالة طمأنة للمشتبه في تورطهم في الانتهاكات، وجّهها زعيم التيار السياسي الذي تعرض منتسبوه إلى أكبر موجات انتهاكات جسيمة خلال تاريخ تونس المعاصر، طمأنة لهؤلاء الموظفين بكونهم لا يتحمّلون وحدهم مسؤولية الانتهاكات التي طبعت سياسة دولة قمعية طيلة نصف قرن. وزاد فذكّر بأنّ حزب النهضة أسقط في البرلمان (التأسيسي ومجلس نواب الشعب) كل مشاريع القوانين التي تتجه إلى الإقصاء وإلى الانتقام. وتأتي مبادرة رئيس حركة النهضة في الوقت الذي تعالت فيه عدة أصوات رافضة لمسار قانون العدالة الانتقالية وخاصة الجانب القضائي منه، ووردت في كلمته بعد أن تطرق إلى من يعملون على “الاستثمار بالدم” الذين يستثمرون في الضحايا لوصم غيرهم وتلويث الحياة السياسية، في إشارة إلى الجبهة الشعبية وذراعها القانوني لجنة الدفاع عن الشهيدين محمد البراهمي وشكري بلعيد، حيث اعتبرها الغنوشي: “تسبح على خلاف المطلوب الوطني وتحاول تلويث الفضاء العام واستغلال الوضع الهش للعودة إلى خطاب الكراهية والحقد والاستئصال وافتعال القضايا”. وكأنّ الغنوشي يحمّل اليسار التونسي جزءا مهمّا من المسؤولية على ما ارتكب من انتهاكات، في العشريتين السوداوين اللتين مرت بهما تونس في عهد الرئيس بن علي، عندما تورط اليسار في الانتهاكات عبر التحريض والتشويه وافتعال الملفات الإعلامية، من مواقعه في الدولة ومن موقع المعارضة أيضا. اللافت في كلمة الغنوشي تمسّكه بالجانب الأخلاقي في العمل السياسي فثمّن إقدام ضحايا الدكتاتورية على التحلّي بالسماحة والعفو وشجّع على مواصلة ذلك. ولكنّه رفض في المقابل التباهي بماضي الاستبداد وتمجيده، وترك بعض الملفات غامضة. إنّ تجاوز هذه العوائق سيكون كفيلا بالتوقي من النزاعات الحادة التي قد تحدث مستقبلا بفعل الضغائن الكامنة والثارات الموروثة. وقال الغنوشي: “نرفض أن يبقى مصير بعض الشهداء غامضا وجثثهم مخفية، ونرفض أن يرى الضحية جلاده متباهيًا”. تقطع النهضة نهائيا، بهذا الخطاب، مع التلبس بموقع الضحية وتضع نفسها في مكانة الضامن لحرية غيره، وكأنّه حديث من موقع القوة والمسؤولية، موقع الدولة، وهي الصورة التي تريد حركة النهضة أن ترسّخها عن نفسها، أنّها حزب مدني يحكم. وإذا كان الغنوشي اعتبر أنّ إتمام مسار العدالة الانتقالية، وفق المبادرة التي طرحها، سيعزّز الوحدة الوطنية ويحقّق المصالحة الوطنية الشاملة. فإنّه لم يقفز على عمل هيئة الحقيقة والكرامة، بل يكمّله، ويمنح زمام المبادرة لممثلي الشعب في البرلمان عبر قانون العفو العام، وهو بذلك يحقق هدفين هامّين يستعيدان روح التوافق، إذ يمحو أثر الانقسام الذي جدّ في مجلس نواب الشعب في مارس الماضي حول إنهاء عمل هيئة الحقيقة والكرامة بأجل موفى ماي 2018، كما أنّه يرمّم القصور الذي شاب مبادرة رئيس الجمهورية في قانون المصالحة، بل إنّه قد يفتح الحوار حول مبادرة سياسية جديدة مدعومة من رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي.