أثبتت تقارير أصدرتها مختلف المنظمات الحقوقية، الوطنية والدولية على حدّ سواء، استمرار التعذيب والإفلات من العقاب داخل مراكز الإيقاف والسّجون رغم السنوات الثمانية التي مرّت على سقوط دولة “البوليس” ، ولعلّ ما ضاعف حساسية الوضع الخلل في التعامل القضائي مع القضايا المرفوعة في علاقة بالتعذيب سواء بالبطء في البتّ فيها أو بعدم إنصاف ضحاياها ، الأمر الذي خلق عديد التساؤلات حول ما إذا تمّ القطع فعلا مع اعتماد التّعذيب كسياسة دولة ممنهجة. التعذيب ليس سياسة ممنهجة للدولة لكن.. تطال القضاء التّونسي مؤاخذات عديدة حول بطء تعاطيه مع القضايا المرفوعة إليه في علاقة بالانتهاكات المادية والمعنوية في مراكز الإيقاف والسجون، سواءً في السنوات التي تلت الثورة أو في ظلّ حكم نظام الاستبداد. وفي ندوة صحفية عقدت الأسبوع المنقضي ، قال مختار الطريفي، نائب رئيس المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، إن القضاء التونسي لم يصدر أي حكم يخص القضايا المرفوعة أمامه من قبل فرع منظمته في تونس والمتعلقة بارتكاب جريمة التعذيب من قبل “موظفين عموميين”. وأوضح أن المحاكم التونسية قضت بالإدانة في عدد قليل من القضايا لم يتجاوز عددها 5 قضايا وتعلقت إما بسوء المعاملة أو الاعتداء من قبل موظف أثناء مباشرته لوظيفته ولم تتعلق هذه الإدانات بجرم التعذيب كما يحددها الفصل 101 مكرر من المجلة الجزائية، منوّها بأن ظاهرة الإفلات من العقاب لا تزال متواصلة ولم تتم احالة العديد من مرتكبي التعذيب امام القضاء الى جانب البطء في البت في القضايا ذات الصلة مشددا على ان دور منظمته يكمن في تنبيه السلط العمومية الى هذه الظاهرة . وينصّ الفصل 101 مكرر من المجلة الجزائية : “يعاقب بالسجن مدة ثمانية أعوام الموظف العمومي أو شبهه الذي يخضع شخصا للتعذيب وذلك حال مباشرته لوظيفه أو بمناسبة مباشرته له”. ويقصد بالتعذيب كل فعل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسديا كان أو عقليا يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول منه أو من غيره على معلومات أو على اعتراف أو معاقبته على فعل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه هو أو غيره أو تخويفه هو أو غيره أو عندما يقع إلحاق الألم أو العذاب الشديد لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أيّا كان نوعه. “ رغم أنّ التعذيب في تونس من قبل أفراد الأمن وغيرهم من الموظفين العموميين لم يعد اليوم سياسة ممنهجة ولكن السكوت على ارتكاب التعذيب وعدم معاقبة الجناة قد يدفع هؤلاء الى ارتكاب المزيد منه داعيا الدولة الى تبنّي سياسة صفر تسامح مع الجناة فضلا عن مواصلة التشهير بالانتهاكات والتجاوزات، وفق الطريفي الذي شددّ على عدم وجود أي مبرّر لارتكاب التعذيب حتى في حالات التحقيق مع المشتبه بهم في قضايا ارهابية. ويتطابق ما جاء على لسان الطريفي مع تصريحات لرئيسة المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب المحامية راضية النصراوي، التي أكّدت في أكثر من مناسبة أن “التعذيب في تونس ليس سياسة ممنهجة ولكن عدد الضحايا كبير، وإذا صمتنا يمكن أن يكون سياسة ممنهجة”. المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب ما انفكت تثبت في تقاريرها السنوية تواصل الانتهاكات الجسدية والمعنوية تجاه الموقوفين والمساجين، بعد الثورة، أمام بطء تعاطي القضاء مع القضايا المرفوعة لديه. في تقريرها ل2017، أكدت المنظمة تسجيل 5 حالات وفاة مسترابة بمراكز إيقاف يشتبه في تعرضها الى التعذيب . وأضافت أنّ 60 بالمائة ممن تعرضوا للتعذيب كان بدافع العقاب وليس للحصول على اعترافات، وأنّ 75 بالمائة ممن تم انتهاك حقوقهم اثناء الايقاف تتراوح اعمارهم بين 19 و39 سنة. و راوحت 79% من الشكاوى التي قدمتها المنظمة ضد مرتكبي الانتهاكات راوحت مكانها ومازالت في طور البحث الابتدائي (البحث بمراكز الشرطة) فيما بلغت نسبة الشكاوى التي مرت إلى التحقيق القضائي 10 % أما الشكاوى التي هي في طور المحاكمة فقد بلغت نسبتها 11 %، وفق ما كشفه كاتب عام المنظمة منذر الشارني . وتصدرت مراكز الشرطة وفق ذات التقرير المرتبة الأولى في أماكن الانتهاك بنسبة 35 % تلتها السجون بنسبة 32 % ثم الأماكن العامة بنسبة 24 % كما تصدرت الشرطة قائمة السلط المسؤولة عن الانتهاكات بنسبة 61 % تلتها السجون بنسبة 33 % ثم مراكز الحرس الوطني بنسبة 6 %. وبخصوص دوافع الانتهاك ذكر التقرير أن الدافع الأول تمثل في العقاب بنسبة 53 % فيما كان الدافع الثاني اقتلاع الاعترافات بنسبة 24 %. واعتبرت المنظمة في تقريرها أن تونس لم تصل أثناء السنة الماضية إلى الاستقرار التشريعي والمؤسساتي المنشود في علاقة بحقوق الانسان ومناهضة التعذيب مشيرة في تقريرها إلى عدم توفر مؤشرات جدية على التزام السلطة السياسية بتطبيق منظومة حقوق الانسان على أرض الواقع. " في بعض الحالات يجد المواطنون أنفسهم ضحية سوء المعاملة والاهانات لدى تقدمهم الى الجهات الامنية لتقديم شكاوى او لإتمام اجراءات ضد اشخاص أخرين قد يكون لهم معارف او نفوذ"، هكذا صرح الشارني في تصريحات إعلامية، متابعا " داخل السجون لازالت تسجل حالات اعتداءات و تسلط عقوبات بالسجن الانفرادي وما ينجر عنها من الحرمان من حق الزيارة ومقابلة العائلة وهو ما يطرح ضرورة الاسراع بإصلاح قانون السجون في هذا الباب وفي غيره". وبحسب الشهادات التي أدلت بها عائلات عدد من المساجين للمنظمة التونسية لمناهضة التعذيب ، فإنّ أشكال التعذيب وسوء المعاملة داخل السجون تتراوح بين عقوبة السجن الانفرادي دون عرض على لجنة التأديب، والركل بالأحذية العسكرية والإهمال الصحي والغذائي، والحرمان من العلاج، وعادة ما تقع حالات التعذيب بسبب مطالب بسيطة كالمطالبة بالعلاج أو طلب خدمة اجتماعية، وفي معظم الأحيان بسبب خلاف هامشي مع أعوان السجن أو الإدارة. فضلا عن ذلك، يوجد أشكال تعذيب معنوية على غرار التّجويع أثناء فترة الإيقاف، التهديد بالنيل من شرف الزوجة أو الأخت، الإرهاق بكثرة الاستنطاق، العزل عن العالم الخارجي إلى درجة يفقد فيها الضحية القدرة على تحديد المكان والزمان.. جريمة دولة ولئن يعتبر القضاء التونسي مقصّرا إلى حدّ ما اليوم في التّفاعل مع قضايا التعذيب رغم حرص المنظّمات الحقوقيّة على تسليط الضّوء عليها باستمرار ، فإنّه لا يختلف عمّا دأب عليه القضاء ما قبل ثورة 2011 عندما كانت الدولة تعتمد التعذيب كسياسة ممنهجة لصدّ معارضي النظام . ما حدث من مغالطات في قضيّة الشهيد فيصل بركات، على سبيل الذّكر لا الحصر، كشف دور القضاء إبّان النظام السابق في التواطؤ مع الدولة في التعتيم على الحقائق. بتاريخ 8 أكتوبر، تمّ إيقاف فيصل بركات، وتعرّض لشتّى أنواع التعذيب إذ وضعوه في شكل “الدجاجة المصلية” -واحدة من أكثر أساليب التعذيب وحشية- وتداول الأمنيون على ضربه بالهروات على كافة أنحاء جسمه، كما تم إدخال عصًا بشرجه وربط ذكره بخيط صنارة بشدة وذلك طيلة ست ساعات، إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة على مرأى ومسمع العديد من الموقوفين. عمد الأمن إلى إخفاء معالم جريمته الوحشية منذ اللحظات الأولى، وذلك بادّعاء أن فيصل بركات توفي نتيجة حادث مرور، ولكن تقرير الطبيب الشرعي أفاد أن سبب الوفاة هو التعذيب، وقد احتفظ الطبيب بنسخة بخط اليد من التقرير فيما سلّم نسخة مرقونة لأعوان الأمن الذين كانوا مرابطين بالمستشفى. وكشفت التحريات التي أجرتها “الحقيقة والكرامة” ورود مكالمة للطبيب من وزارة الداخلية مضمونها “أحنا عندنا الثقة فيك… آش دخل الشرج في حادث مرور وباش تنحيهم هاذوما”، فرد الطبيب على مخاطبه أنه لا يمكن تغيير فحوى التقرير، ولكن فعلت الوزارة ما تشاء وأعدت تقريرًا لتبرئة القتلة، وذلك وفق ما كشفته الهيئة. وفعلًا فتح قاضي التحقيق حينها بحثًا في جريمة القتل على وجه الخطأ نتيجة حادث مرور والفرار، وتم حفظ القضية في مارس 1992 لعدم التوصل لمعرفة الجاني، بذلك تم الإيهام بوجود جريمة لغاية إفلات المجرمين (وهم الأمنيون المباشرون للتعذيب وأيضًا رؤسائهم والمستشارون والوزراء والقضاء والأطباء) من العقاب. وقد صرح الشهود الذين حضروا حادثة مقتل فيصل بركات أنهم تعرضوا للتهديد بالسجن من جديد أو القتل في حال تقديمهم لشهادتهم لدى حاكم التحقيق. العدالة الانتقالية وقوى الضّغط ولئن تعمل هيئة الحقيقة والكرامة على استكمال مسار العدالة الانتقالية ، فإن القضاء يسير على نحو بطيء جدّا في البتّ في القضايا المحالة إليه من طرف الهيئة، فضلا عن وجود مساعٍ سياسية للتّضييق والضغط عليها. وخير مثال على ذلك المحاكمة الأخيرة ، لمسؤولين سابقين وعدد من وزراء الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، التي أثارت جدلا واسعا حول مسار العدالة الانتقالية، بعد احتجاج بعضهم وتشكيكه بمشروعية هيئة الحقيقة والكرامة.. وكانت الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية، قد انطلقت في سلسلة من الجلسات، للنظر في قضايا محالة من هيئة الحقيقة والكرامة، ضد مسؤولين أمنيين بارزين، ووزراء داخلية سابقين تورطوا بقتل متظاهرين إبان اندلااع شرارة الثورة في 2011. خروج وزير الداخلية السابق في عهد بن علي، أحمد فريعة، في وسائل إعلام وتباكيه على الملأ، منددا بإعادة محاكمته بتهمة قتل متظاهرين خلال أحدث الثورة ، خلق ضجة واسعة على الساحة السياسية حول مشروعية عودة محاكمة شخصيات محسوبة على بن علي وربطها بتصفية حسابات سياسية بعيدا عن منطق العدالة الانتقالية.. الامر الذي دفع هيئة الكرامة إلى الدخول على الخط والدلو بدلوها بخصوص الجدل الحاصل. وقال رئيس لجنة التحكيم والمصالحة بهيئة الحقيقة والكرامة خالد الكريشي، في هذا الشأن، أن الهجمة الشرسة ضد هيئة الحقيقة والكرامة، بعد إحالتها ملفات قتلى وجرحى الثورة للدوائر القضائية المتخصصة تدخل ضمن باب المزايدات السياسية العقيمة”، مشددا على أن الهيئة بصدد تنفيذ قانون العدالة الانتقالية الوارد بالفقرة التاسعة من الفصل 148 من الدستور، داعيا منتقديها إلى التوجه للدوائر القضائية المتخصصة، بدل الاستقواء بالمنابر الإعلامية، في إشارة إلى الوزير السابق أحمد فريعة. وأضاف: “من يشكك في مشروعية الهيئة، عليه الرضوخ للقانون والدستور والبحث عن إمكانية المصالحة مع الضحايا صلب هيئة الحقيقة والكرامة قبل 31 ديسمبر 2018، تاريخ انتهاء عمل الهيئة أو البحث عن حلول خارج القانون ومؤسسات الدولة”. الكريشي أعاد الحملة ضد الهيئة ومحاولة تشويه أعضائها، بالتزامن مع قرب إنهاء عملها وتقديم تقريرها الختامي الذي سوف يحدد حسب قوله، الأطراف المسؤولة عن الانتهاكات على مدى خمسين عاما، منوها بأن “البعض يريد عدالة انتقائية لا انتقالية على مقاسه، ونحن نعمل وفق القانون وفوق المعارك والتجاذبات السياسية التي يريدون إقحامنا صلبها”… المعركة الموجهة ضدّ العدالة الانتقالية ، في هذه المرحلة بالذات التي ارتبطت بالخصوص بمحاكمة المسؤولين في سقوط ضحايا إبان أحداث ثورة 2011 ، يرى مراقبون أن الغاية منها طمس الحقيقة وتخليص مجرمي الأمس القريب من العقاب وربّما تلميع صورتهم، في خطوة إلى إعادتهم إلى المشهد السياسي من جديد…