الهجمات التي تتعرض لها مجموعات الشباب التي صوّتت لقيس سعيد وصنعت الزلزال السياسي الذي ضرب بلادنا يوم 15 سبتمر، ومحاولات التشويه والهرسلة السياسية التي بلغت في بعض الأحيان درجة الملاحقة الإعلامية والفكرية لمقولات وتصورات وحتى صمت المرشح، هذا التشويه وهذه الهجمات هي ليست فقط ظالمة ورعناء في أغلب الأحيان بل هي في الصميم محاولة لإنكار الأسباب الحقيقية التي دفعت بالشباب إلى الكفر بالأحزاب وبالمنظومات قديمها وجديدها، والبحث عن حل لمشاكله، ولتحقيق أمانيه وتطلعاته في مشاريع بقدر ما هي غامضة كانت مطلوبة، بل لعل ما يفسر شدة الاقبال عليها شدة غموضها.. وكان على هؤلاء الساسة أن يتوقعوا هذه الموجة الثورية الجديدة، بعد أن خاب أمل الناس في تحسين ظروفهم المعيشية، وبعد أن عفنت الطبقة السياسية، أو جزء منها على الأقل، المشهد وحوّلت جلسات المساءلة في البرلمان إلى مسخرة أو ملهاة تقام فيها حفلات الردح على طريقة السينما المصرية، وبعد أن عادت وجوه تدّعي الانتماء إلى المنظومة القديمة لتتوعد التونسيين بالسحل والسجون والمنافي، وتهدّد بإلغاء الدستور ومحاكمة من قاموا بالثورة، في استفزاز كبير لمشاعر التونسيين وفي مقدمتهم الشباب. كان علينا أن نحيّي هذا الشباب الذي نجح في غفلة من الساسة والمتآمرين وأعوانهم المحليين والاقليميين في اقتناص اللّحظة لردّ الاعتبار للثورة وشعارتها من جديد وإعادتها إلى الحياة بعد أن تصورت بعض القوى الفائزة في انتخابات 2014 أنها استعادت الحكم بشكل نهائي، وطوت صفحة الثورة.. كان علينا أن نقرأ تمظهرات الوعي الجديد على وجوه الناخبين من الشباب كي نفهم الرسالة جيدا. 2 ولكن ومثلما علينا تفهم واستيعاب الرسائل القوية التي أرسل بها شعبنا وقواه الشبابية، علينا أن نقرّ بأن كثيرا من الغموض يكتنف البرامج والمشاريع التي بنى عليها شبابنا آماله وطموحاته، وخاصة منها ما يتردد عن مشاريع يمكن أن تهز أركان الدولة وتقلبها رأسا على عقب، عبر إلغاء مجلس النواب واستبداله "بسوفياتات" أو ما يشبه اللّجان الثورية على طريقة معمر القذافي.. اللافت أن ما يطرح في هذا المجال كان يجب أن يكون موضوع نقاش وحوار فكري وطني واسع، أو مادة للبحث العلمي في مختبرات علم الاجتماع السياسي عن دور الدولة في عصر ما بعد الحداثة وعلاقتها بالمجتمع وهل الدولة "منبثقة وخارجة من رحم المجتمع أم هي خارجة عنه"، قبل ان يتبلور كل ذلك في مشروع أو برنامج للحكم.. خاصة وأننا في دولة قضاياها الأساسية التهميش والبطالة والمديونية وكتلة الأجور وعجز الميزانية… المسألة أعمق من الطرح الذي لا يتجاوز مجرد شعارات تحكمها الكثير من الطوباوية، فالدولة ليست السيستام، وأن تكون ضد منظومة الحكم لا يعني أن تكون ضد الدولة، إضافة إلى أنّ الأمر يتجاوز المعالجة الشكلانية التي تُطرح اليوم والتي تتصور أن حلّ كل مشكلات البلاد سيتحقق بمجرد تغيير بعض القوانين، فالوضع أكثر تعقيدا وهو يحتاج إلى صياغة مشروع وطني جديد يقوم على رؤية حضارية واجتماعية جديدة.. تبدأ من تغيير مفهومنا للزمن وللعمل ولا تنتهي عند صياغة رؤية فلسفية للحق والجمال والابداع في تأسيس جديد للقيمة وللمعنى، ولإنسان جديد غير مشوّه، فالاصلاح وإعادة بناء الأوطان تبدأ باعادة بناء الانسان كما قال الكاتب البرازيلي الشهير "باولو كويلو" عن إعادة بناء العالم. 3 اليوم على أبناء الثورة وأنصار قيس سعيد أن يعلموا أن المواطن حائر وقلق على مستقبله ومستقبل أبنائه بسبب غموض المشاريع التي يطرحها بعض المحيطين به، وهذا المواطن يشعر أن اكراهات المرحلة وضعته بين خيارين أحلاهما مرّ، فإما الغموض واللادولة / أو الفساد واللاقانون، وكلاهما منذر بالفوضى.. فاللادولة لا يمكن أن تكون إلا فوضى، واللاقانون فوضى أيضا، لذلك على هذا الشباب أن لا يكون انتحاريا وعدميا في اختياراته، وأن لا يجعل من لحظة انتصاره لحظة دمار َوتدمير للتجربة.. بل عليه أن يحوّلها إلى لحظة وعي جديدة تتجاوز أعطاب المرحلة السابقة، علينا جميعا أن نبني على هذه اللّحظة وأن نجعل منها لحظة تأسيس للجمهورية الثالثة.. .. فالتغيير لا يعني الذهاب إلى المجهول "حيث كل شيءٍ ممكن، ولا شيء مؤكدٌ تقريبا" كما قال رئيس الجمهورية التشيكية الأسبق والكاتب المسرحي الشهير فاكلاف هافل. وإذا كانت انتخابات 2011 تجسيدا لاستحقاق من استحقاقات الثورة، وإذا كانت انتخابات 2014 محاولة لاستعادة الدولة، فإن انتخابات 2019 يجب أن تكون مصالحة الدولة مع الثورة، مصالحة حقيقية، تفتح الباب أمام ضخ دماء جديدة في منظومة الحكم، بمنطق مرحلي تدرجي. إن وصول سياسي مثل قيس سعيد إلى قصر قرطاج رسالة قوية للتغيير يجب التعامل معها بوعي على أساس الفصل بين الرئاسية والتشريعية . وأي محاولة للعبث في البرلمان بإسم التغيير سيدفع البلاد إلى أزمة خانقة.. فإن حصل الخط الثوري الراديكالي على الأغلبية وهذا شبه مستحيل فسنجد أنفسنا إزاء تجربة ترويكا 2 وانقسام حاد قد لا ينتهي إلى حل كما حدث في 2013، وإن لم يحصل فالخطر أن يكون البرلمان فسيفساء يعجز عن تشكيل حكومة قوية أو حتى حكومة أصلا. 4 إن أوضاعنا ستزداد سوءا، والشباب الذي ارتفعت سقف توقعاته وآماله بعد الانتخابات الأخيرة، سينتكس -لا قدر الله- إلى اليأس والإحباط من جديد، بما لذلك من تكلفة اجتماعية كبيرة على بلادنا التي تعاني أصلا من ارتفاع نسب الجريمة واستهلاك المخدرات والارهاب.. وكلّها عناوين لفشلنا في بث روح الأمل وفي إمكانية التغيير لفئات واسعة من شعبنا وعلى رأسها الشباب .. وهذا هو السيناريو الذي يراهن عليه من وقف وراء مخطط محاصرة مجلس نواب الشعب بالدبابات، ومن ورائه كل المتربصين بالتجربة والمسار، ففشل الديمقراطية يعني ضرورة خيار العسكرة لدى هؤلاء المسكونين بالاستبداد. وهذا هو الفخ الذي يدفعوننا إليه بعد أن كُنسوا بصندوق الاقتراع كنسا وفشلوا في الحصول على انتصار بقوة المال والحكم والإعلام المنحاز. لقد تحطمت منظومة الاستبداد والاستئصال يوم الانتخابات كما قال الشيخ راشد الغنوشي وهي الآن تناور لتعود في أشكال مختلفة وبأساليب ملتوية، عبر محاولة استنساخ نداء جديد أو بتحطيم النهضة عبر تحريك ملف الجهاز السري بعد صمت اضطرت إليه لجنة الدفاع حتى تٌنسي الناس الحقائق التي فجرها المحامي بشر الشابي منذ أشهر. 5 رسالتي إلى الناخب الذي سيتوجه إلى صندوق الاقتراع يوم 6 أكتوبر وخاصة أنصار الثورة والتغيير، فكروا في أعداء الديمقراطية الذين يريدون الآن طعن النهضة في الظهر ليستفردوا بالشعب وقواه الحية (كما فعلوا مع اتحاد الشغل سنة 1985)، وتذكروا ماذا فعل بن علي بكل الطبقة السياسية بعد محرقة النهضة سنة 1991، من حمة الهمامي إلى خميس الشماري والمنصف المرزوقي وسهام بن سدرين وأحمد نجيب الشابي … وحتى حليفه المُخلّص وقتها إسماعيل السبحاني. إن أكبر المصائب السياسية تأتي عادة بعد الانتخابات التي لا تفرز مشهدا مستقرا وقابلا للحياة، والكرة الآن في ملعبك أيها الناخب فإما أن يكون صوتك صوت عقل وحكمة وبناء أو صوت غضب واحتجاج يرتفع يوما ثم تلتف عليه جيوب الردة والاستبداد ليصمت وقد يكون صمتا دائما هذه المرة. لا يذهب إلى ذهن البعض أننا نُخوّف الناس أو نحاول ابتزاز أصواتهم ولكنها كلمة حق نقولها حتى نحافظ على ثورتنا في انطلاقتها الثانية، ويكون وصول قيس سعيد إلى قرطاج خطوة مضمونة لبناء أغلبية حاكمة دون فاسدين ومستبدين، أغلبية عمودها الفقري خبرة النهضة في الحكم وقدرة أبناء الثورة على تلافي أخطاء الماضي والانفتاح على القوى المجتمعية النظيفة وكسر الانساق التقليدية للتمايز بين يسار ويمين / ورجعي وتقدمي / وثوري وأزلامي / وقديم وجديد.. هذه فرصتنا فلا تضيعوها. المصدر: جريدة الرأي العام محمد الحمروني