نفّذت الدولة الفرنسية جريمة اغتيال الزعيم النقابي والوطني فرحات حشاد في مثل هذا اليوم صبيحة 5 ديسمبر 1952، عن طريق ذراعها عصابة اليد الحمراء. وقد أثارت هذه الجريمة استنكارا وطنيا وعالميا، خاصة لما كان يمثله حشاد من إشعاع عالمي، وقد جاء الاغتيال بعد جولة عالمية أبرزها في الولاياتالمتحدةالأمريكية. ويمثل مقال المفكر والأديب المصري سيد قطب الصادر في جريدة “الرسالة” الثقافية في عددها ليوم 15 ديسمبر 1952، نصّا فريدا يكشف علاقة هذا الأديب الثائر بالقضية التونسية منذ الأربعينات، وما كان لها من استتبعات بالتعاطف الرسمي معه في تونس أثناء محاكمته وإعدامه. وتعود طرافة النصّ إلى شخصية سيد قطب “الإشكالية” فهو الذي نحت مسيرة فكرية تطورت من الرومنطيقية إلى الحزبية (الوفد) إلى الثورية مع مجلس قيادة الثورة إلى جانب الضباط الأحرار في جويلية 1952، وانتهاء بالراديكالية الإسلامية والتبشير بالتغيير العالمي. ويحمل مقال “فرنسا أمّ الحرية”، إضافة إلى تعاطف الكاتب مع الزعيم التونسي، موقفا من الاستعمار الفرنسي، ومن الغرب الاستعماري بصفة عامة، الذي تجاوز الاحتلال إلى الهيمنة الثقافية. وممّا ورد في المقال: “هذه هي فرنسا عصابة من قطاع الطرق، عصابة متبربرة متوحشة، تترصد للزعماء السياسيين فتقتلهم غيلة وغدرا، وتمثل بجثثهم في نذالة وخسّة… هذه هي فرنسا تقف كاللبؤة فمها يقطر من دم الزعيم البطل فرحات حشاد، والدنيا كلها ترقبها وهي تلغ في الدم، ولكنها لا تخجل لأنّ فرنسا “الحرة” قد ضيعت دم الحياء وهي تلغ في دم الشهداء. هذه هي فرنسا التي تهجّد بذكراها وسبّح بحمدها وصلّى رجال ممن يقال عنهم أو عن بعضهم أنهم من قادة الفكر. ومنذ قرن وربع قرن، وفرنسا تمثل مسرحيتها الوحشية هذه على مسرح الشمال الإفريقي منذ احتلالها للجزائر في عام 1830 … إنّ جريمة فرنسا الجديدة هي جريمة الضمير الغربي كله. ففرنسا لا ترتكب جرائمها إلاّ وهي مسنودة الظهر بالمعسكر الغربي. إنّ الضمير الغربي كله، بكل ما فيه من وحشية عميقة الجذور، ليتمثل بوضوح في تلك الجريمة. إنّها جريمة “العالم الحرّ” جريمة الحضارة التي يدعونا العبيد الكثيرون المنتشرون في مصر والشرق العربي من قادة الفكر أن نترك عقائدنا وتقاليدنا وتاريخنا وأمجادنا لنلهث وراءها كيما نرتقي ونتحضر ونلحق بركب العالم المتحضر، العالم الذي يقتل الزعماء الوطنيين غيلة غدرا ويمثل بجثثهم في نذالة وخسّة. إنّ هذا الضمير الذي أوحى إلى فرنسا بأن تقتل الزعيم التونسي وتمثل بجثته لهو ذات الضمير الذي أوحى إلى أنجلترا أن تلقي بالجرحى من الفدائيين في القنال إلى الكلاب المتوحشة.. إنّه هو هو ضمير العالم المتحضر، العالم الذي تسبّح بحمده أقلام خائنة وألسنة خادعة ومن هذه الأقلام قادة الفكر. ونحن ببلاهة منقطعة النظير نصفق للخونة ونهتف للخادعين ونرفع مكانهم عليّا ونهيّء لهم المناصب والمراكز التي يتمكنون بها من تنفيذ جريمة الخداع والخيانة. إلى هؤلاء العبيد أوجه سؤالي: متى كانت فرنسا صديقتنا؟ متى وقفت في صفنا مرة واحدة في التاريخ كله؟” سيد قطب والقضية التونسية لم يكن استشهاد فرحات حشاد هو الباعث على خوض قطب في القضية التونسية، فقد كانت علاقته بالحركة الوطنية التونسية منذ تأسيس مكتب المغرب العربي في القاهرة في نهاية الأربعينات. ونقل الرشيد إدريس، أحد مناضلي الحركة الوطنية والدبلوماسي السابق، في كتابه “ذكريات عن مكتب المغرب العربي في القاهرة”، المنشور في تونس سنة 1981، تغطيات لمشاركات سيد قطب في اجتماعات قادة وسياسيين عرب في القاهرة، كان موضوعها القضية التونسية. وتظهر مشاركة قطب وتدخلاته أنّه كان يحظى بإشعاع ومكانة تؤهلانه إلى أن يكون حاضرا إلى جانب غيره من الزعماء، ومنهم الحبيب بورقيبة. وفي حديثه عن افتتاح مؤتمر المغرب العربي يوم 15 فيفري 1947 بالمركز العام لجمعيات الشبان المسلمين تحت الرئاسة الفخرية لعبد الرحمن عزام الأمين العام لجامعة الدول العربية، يشير الرشيد إدريس إلى حضور شخصيات بارزة وفي مقدمتهم اللواء صالح حرب باشا ومنصور فهمي باشا وأعضاء الوفد اليمني بالجامعة العربية ورئيس الوفد السوداني وأعضاء الجالية المغربية. ويقول إدريس: “افتتحت حفلة المؤتمر ثم اعتلى منصة الخطابة الأستاذ يوسف الرويسي من مجاهدي تونس وقد للحاضرين سعادة عبد الرحمن عزام رئيس المؤتمر الفخري فافتتح المؤتمر.. ثم تلاه الأستاذ عبد الكريم غلاب السكريتير العام للمؤتمر وبعد ذلك تلا الأستاذ الرشيد ادريس بعض البرقيات الواردة وتلاه الأستاذ سيد قطب بكلمة حمل فيها على المفكرين ورجال الثقافة من العرب الذين يجري الاستعمار في دمائهم وقلوبهم فيشيدون بأمم تستعبدهم وتستنزف دماءهم في حين أن واجبهم يقتضيهم أن يظهروا لشعوبهم الرازحة تحت الاستعمار أنّ مبادئ تلك الأمم بضاعة محلية لا تقبل التصدير”. ويشير الكاتب إلى مناسبة أخرى في يوم 8 ماي 1947، عندما نظم مكتب حزب الشعب الجزائري اجتماعا بمناسبة ذكرى 8 ماي 1945 بدار جمعيات الشبان المسلمين. وحضر الاجتماع كثيرون ومن بينهم “تحسين العسكري ممثل المملكة العراقية وعبد القادر باش اعيان وفؤاد اباظة باشا والاستاذ حلمي أبو عز الدين نائبا عن وزير لبنان والدكتور يوسف كحيل وغيرهم من المشتغلين بقضية المغرب العربي”. وبعد ان افتتحت الحفلة بتلاوة آيات من القرآن، “ألقى أحمد أمين بك كلمة نوه فيها بتضامن العرب. ثم تحدث الشاذلي المكي، وارتجل الدكتور عبد الوهاب عزام خطابا أحاط فيه بمظاهر الجهاد من جميع الدول العربية وألقى رفائيل بطى كلمة أشار فيها إلى تحيل الدول الغربية المستعمرة في سبيل بلوغ غايتها في الشرق. وارتجل المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة خطابا أهاب فيه بأمم المشرق العربي أن تشدّ أزر شقيقاتها في المغرب العربي، ثم ألقى الاستاذ محمد حلمي نور الدين كلمة الإخوان المسلمين فقال إن الإخوان يضعون أيديهم في أيدي الأقطار العربية عاملين على تحريرها من الغاصبين. وتحدث الأستاذ سيد قطب عما يسمّى “الضمير الأوروبي” و”الضمير العالمي” وانخداع الشرق العربي بهذه الألفاظ. وتبعه الأستاذ زين الدين حسن فألقى باسم اندونيسيا كلمة حماسية”. ويلاحظ في هذا الاجتماع أنّه أتيح التدخل لممثل جماعة الإخوان المسلمين كما أتيحت لسيد قطب، الذي لم يكن ينتمي وقتها للإخوان، وهو ما يعني أنّه كان ينظر إليه باعتباره شخصية مؤثرة. لينين الحركة الإسلامية يرتبط اسم سيد قطب في نقاشات الفضاءات العامة اليوم بالحركات المتطرفة وبالتكفير والإرهاب، رغم أنّ بعض التيارات السلفية تكفره، غير أنّ بعض الدراسات الفكرية لآثار سيد قطب، تذهب إلى أنّه حتى الإسلاميين أنسهم لم يحسنوا قراءة فكر سيد قطب. وفي هذا السياق تذهب كتابات بعض الباحثين من غير الإسلاميين. ومن ذلك أنّ الباحث المصري شريف يونس في كتابه “سيد قطب والأصولية الإسلامية” الصادر سنة 2014 يرى أنّ مسيرة سيد قطب هي تجربة شخصية لا علاقة لها بالجماعة التي انتسب إليها. وحسب النتائج التي توصل إليها، فإنّ ادّعاء تيارات “جهادية” انتسابها لسيد قطب مرجعية لها، دليل على أنّهم لم يقرؤوا إلاّ نتفا من أقواله الحماسية. ويذهب الكاتب أبعد من ذلك فلا يتردد في القول إن كتاب سيد قطب المشهور “معالم في الطريق” الذي نسبت إليه موجات الحركات الإسلامية العنيفة هو كتاب متأثر في أعماقه بالماركسية والحداثة بصفة عامة ولا يمكن فهمه إلا في إطار الحداثة، ليس فقط بوصفها عدوا يواجهه قطب، بل باعتبارها المصدر الأساسي لرؤيته على مستوى منهجي وفكري أعمق من معركته المباشرة مع الحداثة بوصفها جاهلية. وحسب شريف يونس فإنّه “بتطور الأوضاع السياسية في مصر نحو انفراد الضباط الأحرار بالسلطة سنة 1954 أفسحت الرومنطيقية الوطنية في مرحلتها الإسلامية الطريق لمرحلة الرومنطيقية الأصولية التي تمثلت في أيديولوجيا “العصبة المؤمنة” باعتبارها النخبة الجديدة التي يجب إنشاؤها. هذه الفئة التي ينشدها سيد قطب هي نخبة تغترب عن العالم الاجتماعي”. ويعتبر الكاتب هذه المرحلة “ذروة تطور الروح الرومنطيقية عند قطب ففيها حقق انفصاله الكامل عن العالم الذي أصبح يسمى في مجمله “جاهلية”، وهي رؤية نخبوية متعالية اكتسبت ألوانا مختلفة في مسيرته”. ويشير الكاتب إلى أنّه يمكن إيجاد عديد من نقاط التشابه بين نقد سيد قطب الأخلاقي للحضارة الحديثة، والأفكار الغربية الحديثة الناقدة مثل مدرسة فرنكفورت ونيتشه بل وفرويد وماركسية ذاتهما، فهذه الاتجاهات على اختلافها سوف توافق قطب على إدانة هذا العالم القائم على الدهاء والمراء والكياسة والسياسة ومصلحة الدولة ومصلحة الجماعة. وخلاصة راي الكاتب فإنّ تتبع مسار تطور سيد قطب الفكري “بيّن وجود ترابط قوي بين نزعة رومانتيكية لا عقلانية ونزعة للإصلاح الاجتماعي تتميز بالنخبوية والسلطوية تشكلتا قبل تحوّله الإسلامي لكن اندماجهما أدى إلى تكوين مزيج إيديولوجي متفجر محمّل بشحنة سخط هائلة.” ويقترب سعيد المولى، في كتابه الصادر في القاهرة سنة 2017 بعنوان “الإخوان وسيد قطب”، من الرأي السابق، ويعتبر أنّ ما يميّز سيد قطب عن حسن البنّا أنّه كان ناقدا أدبيا ومفكرا ايديولوجيا راديكاليا انتقل إلى السياسة من بوابة الثورة، ويرى سعيد المولى أنّ كتاب “معالم في الطريق”، الذي يوصف بأنه “دستور الحركات المتطرفة”، جاء على غرار كتاب لينين ما العمل أو كتابه الآخر موضوعات نيسان أو كتابه الدولة والثورة. وهذه كتبت على وهج نيران الثورة والدعوة لاستلام الحكم. يقول سعيد المولى “كان المعالم وثيقة مهمّة من أدبيات الراديكالية الإسلامية وفيها صاغ سيد قطب تحت وطأة الحماس الصوفي والراديكالية غير المنضبطة مفهوما واضحا حول طبيعة المجتمعات البشرية، ليس في مصر فحسب بل في العالم كله، على غرار البيان الشيوعي. أكد سيد قطب أن البشرية تقف على حافة الهاوية وبين أنّ السبب في ذلك هو إفلاسها في عالم القيم… ويستعير سيد قطب مفهوم الطليعة من الماركسية بالمعنى نفسه الذي استخدمه الشيوعيون البلاشفة في أدبياتهم، معتقدا بضرورة أن يقود الكفاح حزب متمرس هدفه إنقاذ المجتمع”. وإذا كان الموقف السائد اليوم من سيد قطب في الفضاء العام محكوم بتأويلات فئوية وتوظيف راديكالي لأفكاره، فإنّ من عاصروه تعاملوا معه باعتباره شخصية أدبية وفكرية حالمة وثائرة. بل إنّ الحبيب بورقيبة الذي كان صارما في محاربة الحركة الإسلامية في تونس، لم يتحرج في أن يكون صديقا لسيد قطب وأن يتعامل مع جماعة الإخوان قبل عهد عبد الناصر وبعده. لطفي حيدوري