أقسام ومعدّات حديثة بمستشفى القصرين    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    الشركات الأهلية : الإنطلاق في تكوين لجان جهوية    التشكيلة المنتظرة لكلاسيكو النجم الساحلي و النادي الإفريقي    وزير السياحة: عودة للسياحة البحرية وبرمجة 80 رحلة نحو تونس    انقطاع التيار الكهربائي بعدد من مناطق سيدي بوزيد والمنستير    كيف سيكون طقس اليوم ؟    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    اكتشاف أحد أقدم النجوم خارج مجرة درب التبانة    يتضمن "تنازلات".. تفاصيل مقترح الإحتلال لوقف الحرب    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    كلوب يعلق على المشادة الكلامية مع محمد صلاح    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية للمنتجات الغذائية    الترجي الرياضي يفوز على الزمالك المصري. 30-25 ويتوج باللقب القاري للمرة الرابعة    بطولة مدريد للماسترز: أنس جابر تتأهل الى الدور ثمن النهائي    وزير الثقافة الإيطالي: "نريد بناء علاقات مثمرة مع تونس في مجال الثقافة والتراث    معرض تونس الدولي للكتاب : أمسية لتكريم ارواح شهداء غزة من الصحفيين    ''ربع سكان العالم'' يعانون من فقر الدم وتبعاته الخطيرة    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    تخص الحديقة الأثرية بروما وقصر الجم.. إمضاء اتفاقية توأمة بين وزارتي الثقافة التونسية و الايطالية    عمار يطّلع على أنشطة شركتين تونسيتين في الكاميرون    توزر.. مطالبة بحماية المدينة العتيقة وتنقيح مجلة حماية التراث    سوسة: القبض على 5 أشخاص يشتبه في ارتكابهم جريمة قتل    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    اعتماد خطة عمل مشتركة تونسية بريطانية في مجال التعليم العالي    رئيس الجمهورية يستقبل وزير الثقافة الإيطالي    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    رئيس الاتحاد المحلي للفلاحة ببوعرقوب يوجه نداء عاجل بسبب الحشرة القرمزية..    القطب المالي ينظر في اكبر ملف تحيل على البنوك وهذه التفاصيل ..    اليوم..توقف وقتي لخدمات الوكالة الفنية للنقل البري عن بُعد    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    البطولة الوطنية: النقل التلفزي لمباريات الجولتين الخامسة و السادسة من مرحلة التتويج على قناة الكأس القطرية    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    أخبار الملعب التونسي ..لا بديل عن الانتصار وتحذير للجمهور    مانشستر سيتي الانقليزي يهنّئ الترجي والأهلي    رئيس الجمهورية قيس سعيّد.. المفسدون... إمّا يعيدون الأموال أو يحاسبهم القضاء    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    الكاف: إصابة شخصيْن جرّاء انقلاب سيارة    وزير الفلاحة: "القطيع متاعنا تعب" [فيديو]    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    قفصة: ضبط الاستعدادات لحماية المحاصيل الزراعية من الحرائق خلال الصّيف    تونس : أنس جابر تتعرّف على منافستها في الدّور السادس عشر لبطولة مدريد للتنس    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    عميرة يؤكّد تواصل نقص الأدوية في الصيدليات    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    انطلاق أشغال بعثة اقتصادية تقودها كونكت في معرض "اكسبو نواكشوط للبناء والأشغال العامة"    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيرة متكاملة لحياة الشهيد الرمز، شهيد الشعب والقضية فرحات حشاد
نشر في الشروق يوم 24 - 12 - 2009

لنا أن نتساءل: كيف أنّ طفلا معدما لم يكمل تعليمه ومن عائلة كبيرة العدد من «دوّار» في منطقة العبّاسية من جزر قرقنة التي قليلا ما تثبت في الخرائط، و»نزح» منها إلى سوسة، تمكّن من اختراق العالمية سنة 1951 وأن يتكلّم باسم تونس التي تكاد بالكاد هي أيضا أن تبرز في خريطة العالم؟ وأكمل مشواره الحياتي القصير باغتيال «غادر» و «جبان» ظنّ مدبّروه أنّهم بذلك سيقضون على الروح الوطنية التي تملّكت بالتونسيين آنذاك لتحرير بلدهم، من خلال قتل من عَدّوه العدوّ الأوّل لوجودهم بتونس فرحات حشّاد وعمره إذّاك 38 سنة.
تونس- الشروق:
سبق للمؤرّخ خالد عبيد أن أعدّ مقالا عن الزعيم فرحات حشاد في سنة 2007، نعيد نشره هنا بالنظر إلى أنّه يسلّط الضوء عن دوافع اغتيال حشاد ودلالاته ويبيّن بوضوح أنّ قتلة حشاد لا يمكن أن يكونوا إلاّ من داخل الأجهزة الفرنسية السرّية منها والعلنية، بالرغم من الجهد الكبير الذي بذلته في طمس آثار جريمتها وفي خلق البلبلة لدى التونسيين من خلال محاولة «توريط» قيادات وطنية وتصوير الأمر وكأنّه تصفية حسابات داخلية تونسية لا دخل لفرنسا فيها.في مايلي نص مقال الدكتور خالد عبيد:
فرحات حشّاد الشهيد الرمز: شهيد الشعب والقضيّة
«ها قد مرّت هذه الأيّام ذكرى استشهاد الزعيم فرحات حشّاد، هذه الذكرى التي طبعتنا صغارا وأثّرت فينا آنذاك وأثرنا فيها أسئلة بريئة براءة الطفولة، التي لم تفقه بعد كلمات مثل استشهاد وزعيم ونقابة ووطن واستعمار ويد الغدر: اليد الحمراء، واستقرّت لدينا منذئذ صورة جميلة عن أجمل تضحية، التضحية من أجل الوطن، ولم تتغيّر هذه الصورة على مرّ السنين ولم تشبها أيّة شائبة أو نقيصة أو...حتّى في ذكرياتنا عن الخطب البورقيبية.
وهكذا بقيت صورة فرحات حشّاد ناصعة للتونسيين بالرغم من المحاولات الفرنسية في حينها لإلصاق تهمة «الغدر والخيانة» برفاق الكفاح من التونسيين رغبة منها في التنصّل من «جريمتها».
في سيرة حشّاد : من الشعْب وإلى الشعْب
لكن الذي يحيّرنا الآن هو هذا الرجل في حدّ ذاته، الرجل الإنسان ومسيرته حتى استشهاده، التي بدأت منذ أن ولد ذات يوم من سنة 1914 في جزيرة قرقنة التي تكاد بالكاد أن تبرز على خريطة البلاد التونسية، ومن منطقة لا يتجاوز سكّانها بضع مئات على أقصى تقدير آنذاك، وهي العبّاسية وتحديدا من «دوّار» قريب منها وفيه بضعة منازل واسمه البرابشة، في عائلة كبيرة العدد فقيرة الحال متكوّنة من 16 أخا وأختا، وكان يقطع بضعة أميال يوميا كي يتعلّم في المدرسة الفرنسية العربية إلى أن تحصّل على شهادة ختم الدروس الابتدائية لينقطع عن التعليم بسبب ضيق ذات اليد، ويضطرّ للبحث عن مورد رزق له ولعائلته فانتقل إلى سوسة سنة 1930 تقريبا أين أخواله وتمكّن من العمل في شركة نقل فرنسية كعون بسيط، ومن هناك كوّن نفسه بنفسه وتعلّم الرقن على الآلة الكاتبة وأساليب العمل الإداري، وانخرط في النقابة التابعة للكنفدرالية العامّة للشغل –الفرع الاقليمي كعامل بسيط وبات كاتبا عامّا لنقابة الشركة وهو لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، وحرّر مقالات في جريدة «تونس الاشتراكية» بالفرنسية، وتدرّج في المسؤوليات النقابية داخل هذه الكنفدرالية بكلّ من سوسة ثمّ صفاقس التي نقل إليها تعسّفيا بغاية إبعاده عن العمل النقابي كي يصبح بداية من سنة 1940 سكرتيرا بالفرع الاقليمي للكونفدرالية بتونس العاصمة.
والأكيد، أنّ فرحات حشّاد قد اكتسب خبرة نقابية كبيرة طيلة انخراطه ضمن الاتحاد الاقليمي للكنفدرالية العامّة للشغل، وقد مكّنته تنقّلاته في العديد من مناطق البلاد التونسية بحكم عمله المهني والنقابي من الاحتكاك أكثر بظروف العمّال التونسيين وبالواقع التونسي عموما.
ومن البديهي أن يلحظ فرحات حشّاد الفروق الكبيرة في التعامل والمعاملات والرواتب والحوافز و.. بين العمّال التونسيين وغيرهم من الأوروبيين وخاصّة الفرنسيين حتى وإن كان التونسي هو الأكفأ والأجدر، ومن الجائز أنّ فرحات حشّاد تأثّر بما تعرّض له التونسيون من قمع فرنسي غير مسبوق بدأ منذ أفريل 1938 وتواصل حتّى مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، بل واستفحل إثر انهزام فرنسا «المروّع» أمام ألمانيا في الحرب، إذ لم تتورّع حكومة فيشي الفرنسية الموالية لألمانيا من مطاردة الوطنيين التونسيين وبلا هوادة.
كما تأثّر أكثر لحال بلده وأبناء شعبه لمّا باتت بلاده وبلادهم تونس مسرحا لعمليات حربية لا قبل لها بها، وانتهكت جيوش جرّارة قوامها أكثر من 500 ألف جندي الأراضي التونسية، واستبيحت البلاد لعدّة أشهر واستفحل التدمير في العديد من البلدات، وطال القتل المدنيين التونسيين العزّل الذين لا حول لهم ولا قوّة، وكيف لا يتأثّر فرحات حشاد بما يحدث وهو آنذاك بصفاقس التي لم تسلم هي بدورها، كما أنّ الانتهاكات بحقّ التونسيين التي قام بها المحور أو الحلفاء أو فرنسا الموتورة إثر طرد المحور من تونس في ماي 1943، لم تكن بخافية عليه.
وهل لنا ان نحتمل أنّ عزل فرنسا للمنصف باي ربّما قد ساهم أكثر في تجذير الوعي الوطني لدى فرحات حشّاد إذا ما وضعناه في هذا الإطار كلّه؟ وبات يعتقد أنّ الوعي النقابي صنو للوعي الوطني فهما متلازمان في بلد مهيمن عليه كتونس، ولربّما نستمدّ بعضا من هذا الاحتمال من الدور الكبير الذي قام به فرحات حشّاد أثناء جنازة المنصف باي وخلّدته بعض الصور فكأنّ المصاب مصابه هو.
أثر حشّاد النقابي في نحت حشّاد الوطني
ومن المحتمل جدّا أنّ الواقع التونسي ككلّ إضافة إلى ممارسات الاتّحاد الاقليمي للكونفدرالية العامّة للشغل التي تقوم على سياسة المكيالين إزاء العامل التونسي والعامل الأوروبي، هي التي دفعت بفرحات حشّاد إلى الاستقالة من هذا التنظيم النقابي الفرنسي في مارس 1944، والعمل على تأسيس نقابة تونسية لحما ودما بدأت مع نوفمبر 1944، واسمها «اتحاد النقابات المستقلّة لعمّال الجنوب التونسي» وذلك في صفاقس وترأّس هو أمانتها العامّة.
وسيولد الاتّحاد العام التونسي للشغل في 20 جانفي 1946 من رحم هذا الاتحاد الجنوبي وتوحّده مع هياكل نقابية تونسية لحما ودما مثله.
والظاهر أنّ المرجعية النقابية الوطنية التي اعتمدها فرحات حشّاد آنذاك، هي مرجعية محمّد علي الحامي وتجربته النقابية التونسية، وهذا واضح من خلال رسائله، وبالتالي، فمن الأكيد أنّ فرحات حشّاد قد استخلص الدروس من هذه التجربة وإخفاقاتها وسيعمل على تفاديها، كما أنّه قد يكون أعجب بسياسة محمّد علي الحامي القائمة على التنقّل الدائم والاتّصال المباشر بالعمّال التونسيين لاستنهاض هممهم وتوعيتهم بواقعهم البائس، خاصّة وأنّه وجد نفسه يسير عليها خلال نشاطه في الاتّحاد الاقليمي للكونفدرالية العامّة للشغل، وأيضا بحكم عمله في شركة النقل الفرنسية بسوسة.
كما أنّ فرحات حشّاد يعتقد مثل محمّد علي الحامي أنّ العمل النقابي في البلدان المهيمن عليها مرتبط بالعمل الوطني وملازم له، لذا نفهم هنا العلاقة المميّزة التي ربطت الحامي ببعض أقطاب الحزب الدستوري قبل أن يتبرأ منه، كما نفهم العلاقة المميّزة التي ربطت فرحات حشّاد بحزب الدستور الجديد منذ سنة 1946، والتي لا تعني في نظرنا انصهارا في الحزب بقدر ما تعني تنسيقا وانسجاما في الرؤى والأهداف التي تتمحور حول السبل المؤدّية إلى الانعتاق الوطني، لأنّ فرحات حشّاد يعتقد جازما أنّ الانعتاق الوطني هو الضامن لتحقيق العدالة الاجتماعية، وأنّ العمل النقابي في بلد مستعمَر كتونس لا بدّ أن يكون عملا وطنيا من أجل التحرير أيضا.
والواضح أيضا أنّ فرحات حشّاد قد حدّد خياراته الوطنية وميولاته الحزبية، لأنّه اختار التعامل مع حزب الدستور الجديد، ولم يشأ التفريط في هذا الحلف بالرغم من الهزّات الكبيرة التي تعرّض إليها حزب الدستور الجديد منذ سنة 1951، بالأخصّ أمام الفشل الواضح لخيار سياسة المفاوضات التي انتهجها الحزب مع فرنسا سنة 1950 وكلّلت ب»إصلاحات» 8 فيفري 1951 التي كرّست السيادة المزدوجة وإن لم تسمّها صراحة، وقبل بها حزب الدستور الجديد «تكتيكيا».
وعمل فرحات حشّاد على أن ينضمّ الاتحاد العام التونسي للشغل إلى الفيدرالية العالمية للشغل منذ سنة 1946، لكن لم يتمكّن من ذلك إلاّ سنة 1949 بعد مفاوضات عسيرة واشتراطات وتعقيدات، تقوم خاصّة على ضرورة توحّد الاتّحاد مع الاتّحاد النقابي التونسي للشغل التسمية الجديدة للاتحاد الاقليمي للكونفدرالية العامة للشغل الفرنسية.
حشّاد والسيزل: نحو العالمية
لكن، سرعان ما انفصل الاتحاد العام التونسي للشغل عن هذه المنظّمة سنة 1950، إثر الانشقاق الذي حصل داخلها وخروج بعض المنظّمات النقابية الغربية عنها، وذلك كي ينضمّ إلى المولود النقابي الجديد الكونفدرالية العالمية للنقابات الحرّة (السيزل)، ويربأ عن التوجّه الشيوعي الخالص الذي لاح لدى الفيدرالية العالمية للشغل.
وهنا ستبدأ مرحلة جديدة لفرحات حشّاد بوّأته الدخول إلى المحافل الدولية بفضل انضمام منظّمته إلى السيزل، وسيشارك في مؤتمر المنظّمة في ميلانو بإيطاليا في جويلية 1951 بوفد من الاتّحاد من ضمنه الحبيب بورقيبة، واختاره المؤتمر في عضوية نائب رئيس في المكتب التنفيذي للسيزل مكلّف بافريقيا، كما سافر إلى الولايات المتّحدة الأمريكية لاحقا ومعه الحبيب بورقيبة لحضور مؤتمر النقابات الأمريكية في سان فرانسيسكو، أين خطب يوم 24 سبتمبر 1951 أمام حشد المؤتمرين، وهناك قام الزعيمان باتّصالات كثيرة كما في نيويورك وواشنطن لحشد التأييد للقضيّة التونسية التي بات معلوما لديهما أنّها على مفترق طرق مصيري.
وإلى حدّ الآن، لنا أن نعيد تساؤل البداية وهو كيف أنّ طفلا معدما لم يكمل تعليمه ومن عائلة كبيرة العدد من «دوّار» في منطقة العبّاسية من جزر قرقنة التي قليلا ما تثبت في الخرائط، و»نزح» منها إلى سوسة، تمكّن من اختراق العالمية سنة 1951 وأن يتكلّم باسم تونس التي تكاد بالكاد هي أيضا أن تبرز في خريطة العالم؟ وأكمل مشواره الحياتي القصير باغتيال «غادر» و «جبان» ظنّ مدبّروه أنّهم بذلك سيقضون على الروح الوطنية التي تملّكت بالتونسيين آنذاك لتحرير بلدهم، من خلال قتل من عَدّوه العدوّ الأوّل لوجودهم بتونس فرحات حشّاد وعمره إذّاك 38 سنة.
إنّ الإجابة عن هذا التساؤل تتجاوز مقام هذا المقال، لكن، من الأكيد أنّها تكمن في شخصية هذا الفرد الاستثنائية وفي ذكائه الوقّاد وفي شخصيته القويّة وفي همّته الاستثنائية والتي لا تكلّ ولا تهين، وفي استيعابه لدروس الماضي وأخطائه وتجنّبها، وفي قدرته الفائقة على المناورة، وفهم متطلّبات المرحلة وتعبئة الشغّالين وتوعيتهم والنأي عن الفخاخ الاستعمارية وغيرها التي نصبت له وللاتّحاد للإجهاز عليه، كما أجهز على محمّد علي الحامي سنة 1925 و..و..
النضال النقابي وطني أو لا يكون
وفي الأثناء، لقد كان لنشاط فرحات حشّاد وهمّته التي لا تفتر وتنديده المستمرّ بالاستعمار وعمله الدؤوب على فضحه والتشهير بممارساته في اجتماعات السيزل ومؤتمراتها، الأثر في تعبئة هذه المنظّمة النقابية العالمية لهذا الموضوع وتحسيسها بمخاطره، وبأنّه يشكّل خطرا على السلم العالمي وعلى العالم الحرّ كما التسلّح والفاشية والديكتاتورية ..وقد تجلّى هذا الجهد الحشّادي في مؤتمر ميلانو جويلية 1951 من خلال قوله: « نحن مصمّمون على التحرّر من عبوديتنا بالاعتماد على أنفسنا وعلى مجهوداتنا الخاصّة،..إنّ الأنظمة الاستعمارية الموجودة تعكّر هذا السلم لدى الشعوب المضطَهدة،..نحن في حالة حرب دائمة مع النظام الاستعماري لاستعادة حرّيتنا، وبدونها لا مجال للسلم، ..أظهرت تجربة عشرات السنين الماضية بوضوح أنّ الدفاع عن المصالح الاجتماعية للجماهير بغاية الارتقاء بالوضعية العمّالية، لا يمكن أن يعطي نتيجة إيجابية ما دامت بلداننا خاضعة للآلة الاستعمارية المجرمة».
كما بات فرحات حشاد يعتبر نفسه ناطقا باسم المنظّمات النقابية في منطقة شمال افريقيا، كما برز في مؤتمر سان فرانسيسكو سبتمبر 1951 الذي وزّع فيه على الحاضرين مذكّرة عن الحالة في بلدان المغرب العربي الثلاث، ومن أمريكا طار فرحات حشاد إلى بروكسيل لحضور اجتماع المكتب التنفيذي للسيزل، وتمكّن من إقناع بقيّة اعضاء المكتب بإصدار بيان يعربون فيه عن تضامن السيزل مع الشعوب المستعمَرة التي تكافح من أجل تحرّرها، كما وافق المكتب على اقتراح حشّاد بفتح مكتب داخل المنظّمة خاصّ ببلدان شمال افريقيا وعلى بعث لجنة إلى المغرب الأقصى.
تنسيق حشّادي دستوري من أجل تدويل القضيّة التونسية
في هذا الإطار، لا يمكننا فهم هذا النشاط الحشّادي الخارجي إلاّ ضمن الاستراتيجية الوطنية، وخاصّة استراتيجية الدستور الجديد القائمة على البحث عن سبل الدعم الخارجي للقضيّة التونسية في مواجهة التعنّت الاستعماري الفرنسي والعمل على كسب أصدقاء مخلصين للقضيّة يعتمد عليهم، لأنّ نُذر المواجهة الحتمية بين الوطنيين التونسين وفرنسا قد بدأت تلوح، وبالتالي بات الهاجس الأوّل للوطنيين خارجيا هو كسب تدويل القضيّة التونسية والعمل على إلحاق الهزيمة الديبلوماسية بفرنسا.
والظاهر أنّ فرحات حشّاد قد تكفّل بالجانب النقابي من هذا الدعم الخارجي، ولم يكتف بذلك بل استغلّ جانب علاقات السيزل العالمية ودعم النقابات الأمريكية له كي يتمكّن من «اختراق» الإدارة الأمريكية والمحفل الأممي...ومعه الحبيب بورقيبة.
والأكيد، أنّ فرحات حشّاد بصفته عضو المكتب التنفيذي للسيزل بات يتمتّع بنوع من الحصانة لدى فرنسا خوّلته القيام بدور حاسم ومؤثّر على الساحة الوطنية هو الذي عجّل باستشهاده، فكيف ذلك؟
وهْب حشّاد نفسه قربانا كي يعيش هذا الشعب
بداية، يجب أن نوضّح أنّ فرحات حشّاد قد وهب نفسه لوطنه ولشعبه، وكان يدرك سنة 1952 أنّ عمله سيكون «جزاؤه» الاغتيال، وبالرغم من ذلك لم يخف ولم يتراجع، ولمّا أحسّ بالخطر، لم يتردّد في إرسال عائلته إلى سوسة يوم الأحد 30 نوفمبر 1952 وإذ عبّرت له زوجته عن تخوّفها ممّا آت وسألته إن كان مهدّدا بالدخول للسجن، فأجابها وهو يركبها سيّارة الأجرة بأن تقرأ له الفاتحة حتى يدخل السجن، لأنّه كان مدركا تمام الإدراك أنّ موته قريب كما قصّ لها حلمه وهو يشقّ الطريق الرابطة بين محطّة قطارات الضاحية الشمالية (ت.ج.م) وحلق الوادي لوحده على رجليه بين طابورين من الجند الفرنسي اللذيْن اصطفّا من أجله، كي يركب باخرة فرنسية راسية في ميناء حلق الوادي، وقد أسرّ إلى زوجته بأنّه ضحك في منامه متعجّبا من هذه القوّة الفرنسية الكبيرة من أجل شخص واحد سيركب إحدى البواخر الفرنسية، ولعلّ عجبه سيزول إن عرفنا نحن لاحقا أنّ جثمانه ستحمله بارجة حربية فرنسية راسية في ذات الميناء، وسط اجراءات أمنية وعسكرية مشدّدة في ظلّ حالة الطوارئ إلى مسقط رأسه قرقنة كي يدفن هناك.
كما كان لاستشهاده الأثر في اندلاع انتفاضة الدار البيضاء الدامية بالمغرب الأقصى يوم 8 ديسمبر 1952 التي شكّلت بداية للثورة بهذا البلد، وبذلك شكّل استشهاده تجسيما للبعد «المغاربي» لديه، ولا زال المغاربة إلى حدّ الآن يربطون في ذاكرتهم الجماعية بين ثورتهم التحريرية واستشهاد فرحات حشّاد، ويعتبرون أنّ استقلالهم بدأ منذ اغتيال حشّاد وبالتالي فهم مدينون لفرحات حشّاد به، كما ذكر ذلك الملك الحسن الثاني إلى السيّد نور الدين حشّاد أثناء استدعائه إلى قصره في مرّاكش سنة 1997 على الأرجح.
اليد الحمراء واغتيال فرحات حشّاد
لكن السؤال الذي يطرح دائما وسيظلّ كذلك هو: من قتل فرحات حشّاد؟ ولماذا؟
لقد تعلّمنا في مقاعد الدراسة أنّ اليد الحمراء هي التي اغتالت فرحات حشّاد ورسخت هذه المعلومة في ذاكرتنا إلى اليوم، ونعتقد أنّها لن تتزحزح، وإلى الأبد، بالرغم من المحاولات الفرنسية المستميتة زمنئذ في تحريف اتّجاه إدانة اليد الحمراء الفرنسية إلى أيادٍ أخرى تونسية ما زال صداها الذاكري إلى اليوم.
ولقد برزت اليد الحمراء في ربيع 1952 وقامت بتوزيع مناشير تعبّر فيها عن أهدافها كما قامت بعمليات إرهابية ضدّ التونسيين العزّل والوطنيين وصلت إلى حدّ التصفية الجسدية ونسف المنازل..
وها نحن نخصّ قرّاءنا بمنشور لليد الحمراء لم ينشر بعد منحه إيّانا السيّد نور الدين حشّاد نجل الشهيد مشكورا، وقد تمكّن من ترميمه بالرغم من حالة الحبر المهترئة جزئيا أحيانا.
ويمكّننا هذا المنشور من التعرّف أكثر على خطاب هذه المجموعة الإرهابية الفرنسية التي يرتكز على ضرورة المحافظة بأيّ ثمن كان على «تونس الفرنسية» « حتى ولو كان من خلال «العين بالعين والسنّ بالسنّ «.
واعتبرت هذه المجموعة نفسها الناطقة باسم 350 ألف من المحاربين القدامى في تونس ! الذين لن يقبلوا أن « تُشتم الصداقة الفرنسية التونسية القديمة وتُهدّد..من قبل حفنة من المحرّضين المأجورين من الخارج. وقد نشأت المجموعة الفرنسية التونسية وتأكّدت في الدم في ساحات المعارك لكلّ البلدان، وستعرف عند الاقتضاء كيف تضع حدّا في الدم للاضطرابات الحالية».
وأرسلت تهديدا مباشرا إلى بعض الأمراء الحسينييين وهنا تقصد الشاذلي بن الأمين باي ومحمّد، والدستوريين الذين وصفتهم بأنّهم باعوا أنفسهم لأمريكا كما هدّدت الشيوعيين.
كما وجّهت اليد الحمراء نداء إلى قدامى المحاربين التونسيين والفرنسيين للالتحاق بها والتنظّم في شكل مجموعات كومندوس والتسلّح محرّضة إيّاهم على القتل دون شفقة.
ضلوع فرنسي ما في مكان ما وفي قرار ما في الجريمة
لكن ماهي حقيقة اليد الحمراء؟ اتفقت الدراسات التي اهتمّت بهذا الموضوع على أنّ هذه المجموعة هي الذراع السرّية الضاربة للأمن الفرنسي بالتنسيق مع غلاة الاستعماريين، وهي متغلغلة داخل الإدارة الاستعمارية في داخل فرنسا أو خارجها ومهمّتها القيام ب «المهامّ القذرة» أي اللاقانونية بغاية ترويع الوطنيين وإسكات صوتهم.
وإذا بات هذا الأمر من شبه المتّفق عليه، فإنّه بإمكاننا أن نفهم لماذا لم يُتمكّن إلى حدّ الآن من تحديد قتلة فرحات حشّاد وغيره، بل ويمكننا أن نفهم حتمية حفظ القضيّة إن آجلا أو عاجلا كما حدث لقضيّة فرحات حشّاد وغيره أيضا، وليس هذا فقط، بل ويمكننا أن نفهم أيضا لماذا عجّل الأمن الفرنسي بحمل جثّته في نعسان وسيّارته المثقوبة في رادس إلى عهدة الجيش قبل مجيء النيابة العامّة المدنية التي لم يقع إعلامها إلاّ بعد ستّ ساعات من الجريمة! وحتّى الشهود الذين قدّمهم البوليس إلى قاضي التحقيق تميّزوا بتناقض أقوالهم وتضاربها، إلى حدّ أنّ لون السيّارة التي أطلقت عليه النار في رادس وحتّى السيّارة الأخرى التي حملته للإجهاز عليه، بات ألوانا حسب كلّ شاهد بالرغم من أنّ العملية تمّت في وضح النهار ممّا اضطرّ القاضي إلى التخلّي عن الاستماع للشهود، وقدّم تقريرا إلى المقيم العام الفرنسي يعتبر فيه الأمن الفرنسي «العائق الأكثر جدّية للبحث عن المتّهمين وكشفهم»!
ولو اعتمدنا على مذكّرات الرئيس الفرنسي لتلك الفترة فانسون أوريول لاكتشفنا أنّ وزير الداخلية الفرنسي على دراية بهذه المجموعات الإرهابية الفرنسية وبأعمالها، وليس هذا فقط بل وعمل حتّى على عدم إقلاق راحتها من خلال اعتقالات محتملة! وسايره في هذا الاتّجاه وزير العدل لتلك الفترة!
وإذا ما حاول الباحث حاليا النظر في أرشيف الخارجية الفرنسية، فإنّه سيصاب بخيبة أمل لأنّ ملفّ فرحات حشّاد هو الوحيد الذي يتضمّن معلومات جدّ قليلة من بين ملفّات سائر الزعماء الوطنيين، و لا نجد فيه حتّى تقريرا عن المقيم العام أو برقية أو .. أو تقريرا أمنيا أو...تفاصيل ضافية عن نشاطه الوطني والنقابي كما باقي الملفّات فهل هذا صدفة؟ ألم يتدخّل أحد ما في وضع الوثائق الخاصّة بأرشيف هذا الملفّ؟ ونزع منه كلّ ما يمكن أن يُشتمّ منه رائحة معيّنة ! وتزداد هذه الخيبة مرارة عندما نرجع إلى وثائق الأرشيف الخاصّ بمراسلات الإقامة العامة ومصالحها لفترة ديسمبر 1952 فنجد تقارير وبرقيات طوال هذا الشهر باستثناء يوم 5 ديسمبر! فحتّى دي بواسسن الوزير المفوّض لدى الإقامة العامّة والذي عوّض دي هوتكلوك الموجود في باريس آنذاك لم نجد ولو تقريرا صادرا عنه في هذا اليوم!
فماذا يعني هذا؟
..ورغبة محمومة في إلصاقها بالتونسيين
وفي المقابل نجد وثائق مثبتة في أرشيف الخارجية الفرنسية وفي ملفّ فرحات حشّاد ذاته تدفع قارئها إلى توجيه أصابع الاتّهام إلى الكلّ باستثناء الفرنسيين! تماما مثلما فعلوا في الشهود إذ تمكّنوا من التلاعب بهم وتهديد بعضهم ولربّما شراء ذمم البعض الآخر، وحتّى الإتيان بشهود مصطنعين، إذ أنّ الباحث المدقّق والذي خبر خبايا الأرشيف يشعر بوجود هذا التلاعب الوثائقي لتوجيه البحث التاريخي نحو وجهة تدفع المسؤولية عن فرنسا، وهل من الصدفة أن نعثر على معلومات أرشيفية سبق لي أن استمعت إليها في شكل إشاعات منذ السبعينات عن دور محتمل للزعيم الحبيب بورقيبة في اغتيال فرحات حشّاد؟ !
وكم هي صدفة «حسنة» أن نعثر على تقرير سرّي مفصّل قام صاحبه بكلّ ما في وسعه لتبرئة ذمّة الفرنسيين من دم فرحات حشّاد!، وفي المقابل بذل جهودا جبّارة لإلصاق اغتياله بالوطنيين أو لنقولها صراحة ببعض زعماء الحزب الدستوري الجديد الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف وغيرهما على حدّ السواء! وذلك بدافع تصفية الحسابات والغيرة و.. وضع سيناريو محتمل للدوافع الحقيقية وراء القتل الذي يحقّق هدفا مزدوجا: القضاء على منافس لدود وقويّ واستغلال هذا القتل للتشهير بفرنسا في المحفل الأممي الذي عرضت أمامه القضيّة التونسية وتقديم «القتيل» كضحيّة من ضحايا الإرهاب الفرنسي!..وغير ذلك من الاختلاقات التي تحاول قدر جهدها النأي عن اتهام فرنسا والتي قامت فرنسا ببثّها لدى التونسيين مذّاك وراجت لديهم على الأرجح ما دمت قد تلقّفت بعضها في صغري، مثل تعرّف فرحات حشّاد الجريح على ركّاب العربة الثانية وبطبيعة الحال هم من التونسيين وذهابه معهم إلى طريق الموت في نعسان.
وكم هي صدفة «حسنة» أن نعثر أيضا على تقرير آخر لكن ليس في ملفّ فرحات حشّاد وفيه حديث لأحد رجالات الإقامة العامّة الفرنسية يحاول أن يوجّه أصابع الاتّهام إلى جهات أخرى غير فرنسية وحتّى داخل قصر الأمين باي!
وكم هي صدفة أخرى أيضا أن يكتب دي هوتكلوك في مذكّراته كي يبرّئ نفسه من دم فرحات حشّاد وأنّه قام –المسكين- بكلّ الجهد الممكن حتّى يدفع الخارجية الفرنسية إلى الموافقة على طلب فرحات حشّاد الخروج إلى أمريكا لحضور أشغال السيزل، ومن ثمّة منعه من الرجوع وإن لم توافق الخارجية فعلى الأقلّ اعتقاله ضمانا لحياته(ذكر هذه المعلومة في تقرير له) لكن لم يحدث أيّ شيء من هذا، ورفضت الخارجية السماح لحشّاد بالخروج، فكان أن حصل المحظور، وهنا سارع بنا دي هوتكلوك في مذكّراته إلى العزف على السنفونية القديمة الجديدة، سنفونية وجود أعداء تونسيين ألدّاء له هم الذين يقفون وراء قتله!
..بالرغم من بعض الإشارات والدلائل
وهل من الصدفة «الحسنة» أيضا أن ترفض الخارجية الفرنسية طلبا متجدّدا من الباي بضرورة استبدال الكاتب العام للحكومة التونسية: بونس؟ وأن يتخذ هذا الرفض في نوفمبر من سنة 1952؟ هل أنّ تجديد الثقة بل وتأكيدها في شخص كاتب عامّ للحكومة معروف بأنّه أحد الأيادي الطولى لليد الحمراء صدفة؟ بل ونجد أنّ التبرير المقدّم لإثباته هو أنّ الوضع بالبلاد يستلزم وجوده؟
فعلا يستلزم وجوده! إلى درجة أنّ فرحات حشّاد ذكره بالاسم وجهارا كأحد القائمين البارزين على اليد الحمراء داخل السلطة الفرنسية بتونس، أو لنكون أوفياء لما ذكره دانيال قيران الذي قابل فرحات حشّاد يوم 25 نوفمبر ونقل عنه أنّ بونس يحمي خصوصا هذه اليد الحمراء.
ولو انتبهنا قليلا، لرأينا المقيم العام الفرنسي دي هوتكلوك يبارح تونس مساء يوم 4 ديسمبر 1952 بالرغم من تحرّج الوضع فيها، فهل ذلك مجرّد صدفة؟ وأن يلتحق فور وصوله باريس صباح يوم 5 ديسمبر بقصر الحكومة لحضور اجتماع وزاري مضيّق مخصّص لتونس! وفي الأثناء، أُعلم بالخبر، خبر اغتيال حشّاد! كم باتت متواترة هذه الصدف؟ !
هل لفرنسا أن تميط الحقيقة وتعترف بحقيقة ما حدث؟
في الواقع، لو أردنا أن نفيض أكثر في هذه المسألة لأفضنا، لكن نعتقد أنّ المعلومة قد وصلت إلى القرّاء وهي أنّ قاتلي فرحات حشّاد هم بالتأكيد من داخل الجهاز الفرنسي، لكن من بالضبط؟ وكيف أعطيت الأوامر ؟ ومن أعطاها؟ ومع من تمّ التنسيق؟ ومن قام بالتغطية؟ ومن حمى القتلة؟ ومن بعثر الأوراق الرسمية التي قد تدين يوما ما؟ ومن أتلفها إن اقتضى الأمر؟
هذه أسئلة لا يمكن الإجابة عنها، لأنّ المعنيّ بالإجابة غير معنيّ بها حاليا، بالرغم من أنّ كلّ ما تطلبه عائلة الزعيم الشهيد فرحات حشّاد هو معرفة حقيقة ما حدث، الحقيقة التاريخية فقط وللتاريخ، والاعتراف بهذه الجريمة بحقّ زعيم أخلص لحرّية وطنه وخلاص شعبه، وكان دوما يدعو إلى التقارب ونبذ الكراهية فالاعتراف بما حدث ومعرفة ما حدث هو قوّة لمن يقوم به ويقدم عليه، لأنّ هذه الخطوة ستساهم في التوجّه نحو هذا الاتّجاه التصالحي، الذي طالما دعا إليه فرحات حشّاد وتمسّكت به عائلته إلى الآن بالرغم من أنّ فرضيات اللجوء إلى إعادة فتح ملفّ الاغتيال لم تشأ اعتمادها أبدا، فهل من لفتة فرنسية في هذا الاتّجاه؟
فرحات حشّاد الرأس المدبّر والعقل المسيّر للمقاومة
ويبقى السؤال الهامّ لماذا قتل فرحات حشّاد؟
تزخر تقارير المقيم العام الفرنسي دي هوتكلوك بتعاليقه عن فرحات حشّاد فهو يعتبره ذكيّا للغاية، ومناورا و..و.. ويعتبره أيضا وهذا هو المهمّ أنّه الرأس المدبّر والعقل المسيّر للحركة الوطنية وإن غلّفها برداء نقابي، بل ويستعمل هذا الرداء النقابي لتسيير المقاومة وإيصال التعليمات و...هنا لم يبالغ المقيم العام الفرنسي في ذلك، بالنظر إلى أنّ حزب الدستور الجديد بات مشلولا وعناصره إمّا مطاردة أو منفية أو مسجونة أو تحت الرقابة اللصيقة، بينما بإمكان فرحات حشّاد أن يستغلّ مكانته كعضو في المكتب التنفيذي للسيزل الذي منحه نوعا من الحصانة دفعه إلى استغلال ذلك بأقصى جهد ممكن له، فسيّر المقاومة بل وكانت بعض عمليات المقاومة يخطّط لها وتعطى تعليماتها و..و في مكتبه بمقرّ الاتّحاد العام التونسي للشغل وبحضوره، وبات الاتّحاد الواجهة العلنية لنشاط المقاومة التونسية أمام القمع المسلّط على الوطنيين التونسيين، بل وتعرّض الاتحاد وعناصره إلى الاعتقالات والتضييقات، كما الطرد التعسّفي مثل إضراب يوم 1 أفريل 1952 احتجاجا على تعيين وزارة صلاح الدين البكّوش الذي قمعته فرنسا وأطرد العديد من النقابيين من عملهم في مختلف مناطق البلاد، بل وشهدت المصلحة الطوبوغرافية المركزية بتونس العاصمة طردا شاملا لكلّ موظّفيها بمن فيهم المهندس بسبب مشاركتهم في الإضراب.
والأخطر من كلّ هذا هو اعتقال عناصر من الاتحاد ضالعة في عمليات المقاومة كعملية يوم 16 أكتوبر 1952 بجبال الثالجة قرب المتلوي.
قرار اغتيال حشّاد بدأ إثر عملية قابس
ومن الأكيد أنّ عملية قابس التي أودت بحياة خمسة من الفرنسيين ليلة 15 – 16 نوفمبر 1952، هي التي تقف وراء قرار اليد الحمراء تصفية فرحات حشّاد خاصّة وأنّه ثبت أنّ له بعض اليد فيها بطريقة أو بأخرى، ومنذ ذلك التاريخ تهاطلت برقيات الفرنسيين في تونس تطالب الدولة الفرنسية باتّخاذ كلّ الاجراءات لمعاقبة «المجرمين» ودعت صراحة إلى الضرب بيد من حديد على من يقف وراء هذا العمل «الإجرامي»، ونعتقد أنّ هذا التهاطل البرقي لم يكن بريئا، بل غايته توفير أدوات الضغط اللازم بيد من اتّخذ القرار بتصفية فرحات حشّاد، حتّى يحتجّ بها ويحاجج لدى من يهمّه الأمر داخل الدوائر الفرنسية بغاية إقناعها بضرورة التصفية.
حشّاد: العقبة الوحيدة أمام «استسلام» الأمين باي لفرنسا
وثمّة عامل آخر يقف وراء استهداف فرحات حشّاد، وهو أنّه بات يشكّل عقبة أمام تحقيق الأهداف الفرنسية في تونس بل وحتّى المشروع الفرنسي فيها، وهذا ما تؤكّده تقارير دي هوتكلوك ذاتها، بالنظر إلى تمكّن فرحات حشّاد من تشكيل جبهة متّحدة داخل بلاط الباي بينه وبين ابنيْ الأمين باي: الشاذلي باي ومحمّد باي وحتّى مع الأمين باي ذاته الذي كان يكنّ له عطفا لامتناهيا وثقة مفرطة به إلى حدّ أنّه بات مستشاره المخلص في الشؤون التونسية، ولو أردنا أن نفهم كيفية رفض محمّد الأمين باي في صيف 1952 للإصلاحات الفرنسية التي اقترحت عليه، فعلينا أن نبحث عن تأثير فرحات حشّاد وتوجيهه إيّاه في كيفية التصرّف مستعينا بابنيْ الباي (الشاذلي ومحمّد) اللذيْن هدّدتهما اليد الحمراء بالتصفية، بينما رغب دي هوتكلوك في نفيهما خارج البلاد.
وإذا أردنا أن نفهم «صمود « الأمين باي في وجه الضغوط والمناورات الفرنسية وحتّى التهديدات طوال فترة 1952 وإلى حدّ «استسلامه» لها يوم 20 ديسمبر 1952 ، فالجواب يمرّ حتما عبر دور فرحات حشّاد المحوري، فهل صدفة أن قبل الأمين باي الإمضاء على تعيين وزارة صلاح الدين البكّوش وبالتالي القبول بأمر واقع نفي وزارة شنيق في آخر مارس 1952 ، عندما كان فرحات حشّاد في الولايات المتّحدة الأمريكية أي بعيدا عنه وعن التأثير فيه؟ وهل من الصدفة أن «يستسلم» الأمين باي في آخر ديسمبر 1952 أي بعد أن اغتيل فرحات حشّاد؟ وهل من الصدفة أن يقع الأمين باي طريح الفراش منذ أن سمع بموت ابنه الروحي فرحات حشّاد؟ واسودّت الدنيا بالنسبة إليه وبات يشعر أنّه هو المستهدف التالي بعد حشّاد؟ ألم يحقّق اغتيال فرحات حشّاد هدفه بالنسبة للفرنسيين عندما اضطرّ الأمين باي صاغرا – وأشدّد على هذه الكلمة- على الإمضاء على الإصلاحات المقترحة؟ وبالتالي من المستفيد من قتل فرحات حشّاد؟ الفرنسيون أم الوطنيون التونسيون أو بعض دوائر قصر الباي؟
ولو فرضنا جدلا أنّ اغتيال فرحات حشّاد يريح بعض الزعماء الوطنيين التونسيين، كما جهد في ذلك الفرنسيون، فلا أعتقد أنّهم كانوا قادرين على تعويضه بأيّ كان في مهمّة إسناد القصر الملكي التونسي حتّى يصمد أمام الضغوط الفرنسية، وهي المهمّة التي نجح فيها فرحات حشّاد أيّ نجاح، فهل يتميّز زعماؤنا بالبلاهة السياسية حتّى يقدموا على مثل هذا العمل الانتحاري بالنسبة إليهم، لأنّه يعرّي تماسكهم الداخلي من خلال فقدان سند القصر لهم واصطفافه وراء فرنسا، وهذا السيناريو بالذات هو الذي كان الحبيب بورقيبة يرفضه تماما ويعتبره كارثيا على القضيّة التونسية.
الاستشهاد الحشّادي : بداية النهاية للحلم الاستعماري الفرنسي
لكن، وفي المقابل، كان لاستشهاد فرحات حشّاد الأثر الكبير في دفع التونسيين إلى مزيد البذل والتضحية من أجل وطنهم، وصعد الكثير إلى الجبال وانخرط آخرون في المقاومة داخل المدن ولسان حالهم يقول : ذهب فرحات حشّاد فماذا تبقّى! فلنذهب الكلّ إذن! وساهمت فرنسا من حيث لا تدري في الدفع نحو تحرّر البلاد التونسية كما المغرب الأقصى ب»فضل» استهداف حياة فرحات حشّاد الذي بات رمزا لكلّ التونسيين آنذاك وبات منزله في رادس محجّا وطنيا ونقابيا لوفود تونسية من كلّ البلاد التونسية لأشهر حتّى لا نغالي فنقول لسنوات، وبكى التونسيون فرحات حشّاد بمرارة، كما بكته زوجته التي ترمّلت ولم يتجاوز عمرها ال22 عاما وترك أربعة أطفال يتامى منهم رضيعة السبعة أشهر، فقدوا فجأة والدهم الحنون الذي لم يكن يتوانى في الاهتمام بهم حتّى في أحلك فترات القمع وأشدّ فترات النضال، لكن لن يفقدوا أبدا إكبار شعب لهم ولوالدهم وتقديره لهم وله، وعرفانه بالجميل لهذا الشهيد، شهيد الشعب والوطن، شهيد القضايا العادلة، شهيد الدفاع عن حرّية شعب وحقّه في تقرير المصير وكرامة العمل في أيّ مكان في العالم وفي أيّ زمان.»
جريمة اغتيال الزعيم حشاد: ماذا في رسالة الاتحاد الى رئاسة الجمهورية الفرنسية
تونس - «الشروق»
لا تزال قضية اغتيال الزعيم النقابي والوطني فرحات حشاد سنة 1952 تتفاعل في الأوساط النقابية بعد المعطيات الجديدة التي ظهرت على إثر بث قناة الجزيرة الوثائقية لشهادة أحد أفراد عصابة اليد الحمراء الإستعمارية الفرنسية التي نفذت جريمة الاغتيال.
وفي اتصال مع «الشروق» كشف النقابي محمد الطرابلسي عن معلومات تهم القضية حيث سبق لقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل مراسلة رئاسة الجمهورية الفرنسية مطالبة بفتح ملف القضية وكشف أرشيف الجريمة.
وقد تولت رئاسة الجمهورية الفرنسية حينها الرد على الاتحاد عن طريق سفارة فرنسا في تونس وكانت المرة الأولى التي ترد فيها فرنسا بشكل رسمي في موضوع يتعلق باغتيال الزعيم فرحات حشاد.
وقال الطرابلسي ان قضية اغتيال فرحات حشاد مفتوحة منذ سنة 1952 باعتبار أنها مسجلة ضد مجهول لكن الاعتراف الذي ورد الآن على لسان أحد أفراد عصابة اليد الحمراء يحدد بدقة الجهة التي نفذت جريمة الاغتيال.
وكشف محمد الطرابلسي على انه تم في سنة 1958 القبض على فرنسي من طرف مخابرات جبهة التحرير الجزائرية متهما بمحاولة اغتيال الرئيس أحمد بن بلا حينها واعترف قبل اعدامه بأنه كان من بين العناصر وأفراد منظمة اليد الحمراء التي نفذت جريمة اغتيال الزعيم فرحات حشاد لكن لم يتم حينها متابعة الموضوع وقد كشف أحمد بن بلا عن هذه التفاصيل في أحد البرامج التلفزية على قناة «الجزيرة».
وقال الطرابلسي أن اتحاد الشغل قد سعى الى التنسيق مع النقابات الفرنسية التي عبرت عن استعدادها للعمل على طرح الموضوع وكشف الحقيقة كاملة.
لجنة
من جهة أخرى أكد عبيد البريكي عضو المركزية النقابية عن انطلاق الاتصالات والمشاورات مع عدد من المحامين التونسيين لضبط مختلف الجوانب والاجراءات القانونية الخاصة بمتابعة القضية العدلية ضد من اغتال مؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل فرحات حشاد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.