يعتبر الخلاف البورقيبي اليوسفي من اشد القضايا حساسية في تاريخ تونس المعاصر. كما ان الدراسات والبحوث حول هذه الفترة بقيت شحيحة رغم خطورة ما حدث وتأثيره الكبير على الدولة التونسية الناشئة في السنوات الاولى للاستقلال. وفي دراسة قيمة نشرها في المجلة التاريخية المغاربية (جانفي 2003) يشير الاستاذ عميرة علية الصغير من المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية الى ان الحساسيات والشخصيات التي انخرطت في الحركة اليوسفية المعارضة لاتفاقيات الاستقلال الداخلي لم تعلن كلها انتماءها او ولاءها لشخص صالح بن يوسف الامين العام للحزب الدستوري الجديد، بل تتفق فحسب على رفض تلك الاتفاقيات معتبرة إياها دون المأمول بما انها لا تحقق الاستقلال التام ولا تقطع مع فرنسا وتقر بالوجود الامني والعسكري وتضمن المصالح الفرنسية في تونس لآجال معينة او الى ما لا نهاية له. تحالف وقد جمع هذا التيار اتباع الامانة العامة، وكذلك انصار الحزب الدستوري القديم الرافضين لأي مرحلية والمتشبثين بالاستقلال التام ودون تأجيل. وانضاف لهؤلاء عناصر اخرى من قواعد النظام القديم من دوائر العائلة المالكة المتخوفة على مستقبلها من قيادات دستورية لم تخف ميولاتها الجمهورية عكس غريمها صالح بن يوسف الذي كان قبل اندلاع الانشقاق وخاصة في خضمه يكرر ولاءه للباي والاوساط المحافظة التي كانت تتخوف من الخطاب العصري واللائكي لبورقيبة واتباعه. وليس من باب الصدفة ان يختار بن يوسف الجامع الأعظم ليخطب فيه يوم 7 أكتوبر 1955 لحشد الانصار، وتأليب الرأي العام ضد حكومة الاستقلال الداخلي، وضد اتباع بورقيبة، كما ان حضور عناصر من تلك الشرائح المحافظة الى جانب بن يوسف في التجمع الكبير الذي نظمه في 18 نوفمبر 1955 بملعب «جيو اندري» (الشاذلي زويتن) والذي دعا فيه للعودة الى المقاومة المسلحة لا يدع مجالا للشك في وجود هذا التحالف. وقد انخرطت في هذا التيار المعارض للاتفاقيات قيادة الاتحاد العام للفلاحة تخوفا من الخطاب الراديكالي للاتحاد العام التونسي للشغل حليف الديوان السياسي ورسخ التشدد الذي جابهت به حكومة الاستقلال الداخلي المعارضة اليوسفية (منع الاجتماعات والاغتيالات والاعتقالات) لدى العناصر الموالية لبن يوسف القناعة بضرورة العودة للمقاومة المسلحة لتحقيق غاياتها المتمثلة في مراجعة الاتفاقيات المبرمة وفرض الاستقلال التام والفوز بالسلطة، وكون اليوسفيون في هذه الفترة منظمة شبه عسكرية تعرف بالجبهة المضادة. كما تكونت لنفس الغرض منظمة اخرى كان هدفها الترهيب والدفاع عن الذات يشرف عليها احد المقاومين السابقين هو رضا بن عمار. انتهازية ولعل سرعة تحرك السلطة الجديدة مدعومة بميليشيات كونها البورقيبيون لملاحقة الخصوم والقضاء عليهم هي التي حدت من النشاط اليوسفي في الوسط الحضري لينكفئ نحو الارياف وخاصة الجبلية منها حيث انشئت وحدات عسكرية تنتمي الى ما يسمى بجيش التحرير الوطني. ويرى الاستاذ عميرة علية الصغير ان موقف صالح بن يوسف تغير تجاه مبدأ الاعتماد على العنف المسلح في خضم الصراع مع بورقيبة وبالتحديد بعد عودته من مصر الى تونس في سبتمبر 1955 وليس قبل ذلك. فقد كان بن يوسف يرفض العمل المسلح في السنوات السابقة لخلافه مع بورقيبة، لكن تطوّر الاحداث وانحياز فرنسا الى خصمه دفع بن يوسف الى تغيير استراتيجيته تحت تأثير الناصرية والثورة الجزائرية (نوفمبر 1954) اما القادة العسكريين للحركة اليوسفية (الطاهر لسود وحسين التريكي..) فكانوا يعتقدون ان السياسيين امثال بورقيبة وبن يوسف لم يكونوا في مستوى المقاومة المسلحة وكانت تتحكم فيهم الانتهازية السياسية للوصول الى السلطة. مئات المقاتلين لكن ماهي القوة الفعلية لهذا الجيش من المقاومين المعارضين للخط البورقيبي؟ يقدر قائد القوات الفرنسية بالجنوب آنذاك ان عدد المقاومين المسلحين فعلا بالجنوب الشرقي وحده في شهر مارس 1956 كان ما بين 500 و700 مقاتل، ثم يضيف ان عددهم الحقيقي يربو على 5 آلاف ويذكر الطاهر لسود نفسه (انظر شهادته المسجلة بمعهد تاريخ الحركة الوطنية) ان عدد هؤلاء ما بين 600 و700 مقاتل، لكن يبدو ان هذا الرقم ارتفع في الأشهر اللاحقة وهو ما يرجحه حجم الضحايا في صفوف الثوار بجهة مدنين وتطاوين وبني خداش ومطماطة. ويقدر الاستاذ عميرة عدد الذين قاتلوا تحت راية الأمانة العامة ما بين 1700 و2000 مقاتل، وان الذين استشهدوا طيلة هذه الفترة يربو عددهم على955 شخصا. ومن المرجح ان عدد المقاومين الذين انخرطوا في هذه الثورة كان يساوي ان لم يتجاوز عدد الذين رفعوا السلاح في ما بين 1952 و1954 . اما مصادر التمويل اضافة لما كان يأتي من سلاح ومال من ليبيا او القاهرة بدعم من عبد الناصر فإن المقاومين كانت تصلهم الامدادات من المنضوين تحت الأمانة العامة او من السكان انفسهم (طوعا او كرها) كما كانت الجالية الجزائرية خاصة بسوق الاربعاء والكاف والرديف تساهم في المجهود الحربي. نهاية المغامرة وكانت صائفة 1956 نهاية لجيش التحرير الوطني التونسي بعد التدخل الحاسم للقوات الفرنسية التي حطمت اغلب العناصر المقاتلة واستسلم البعض فيما انضم القلة الى صف وحدات جيش التحرير الجزائري وذلك بعد ان انتهى غرض وجوده اصلا منذ امضاء وثيقة الاستقلال التام. وسوف تقضي التتبعات والاعتقالات (1200 شخص تقريبا) والمحاكمات السياسية (1956 الى 1959) على بقية عناصره الرافضة للاستسلام، وكان استسلام الطاهر لسود نفسه في 3 جويلية 1956 ايذانا بنهاية المغامرة الفاشلة، وانتصار الزعيم بورقيبة على خصومه.