قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون} (الحشر 18) قال صاحب الظلال (وهو تعبير كذلك ذو ظلال وايحاءات اوسع من ألفاظه، ومجرد خطوره على القلب يفتح امامه صفحة اعماله بل صفحة حياته، ويمدّ ببصره في سطورها كلها يتأملها وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته لينظر ماذا قدم لغده في هذه الصفحة، وهذا التأمل كفيل بأن يوقظه الى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير مهما يكن قد أسلف من خير وبذل من جهد، فكيف اذا كان رصيده من الخير قليلا ورصيده من البرّ ضئيلا؟! أنها لمسة لا ينام بعدها القلب ابدا، ولا يكفّ عن النظر والتقليب). وقال تعالى: {ولا أقسم بالنفس اللّوّامة} (القيامة 2) يقول الفراء: (ليس من نفس برة ولا فاجرة الا وهي تلوم نفسها ان كانت عملت خيرا قالت: هلا ازددت، وان عملت شرا قالت: (ليتني لم أفعل) وقال الحسن في تفسير هذه الآية (لا يلقى المؤمن الا يعاتب نفسه: ماذا اردت بكلمتي؟ ماذا اردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضي قدما لا يعاتب نفسه). ويقول الله عزّ وجلّ في وصف المؤمنين الذين يحاسبون أنفسهم عند الزلة والتقصير ويرجعون عما كانوا عليه: {ان الذين اتقوا اذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فاذا هم مبصرون} (الاعراف 201). قال الفاروق عمر رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل ان تحاسبوا، وزنوها قبل ان توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر) {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} (الحاقة 12). ويصف الحسن البصري المؤمن بقوله: (المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله، وانما خفّ الحساب على قوم حاسبوا انفسهم في الدنيا، وانما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الامر من غير محاسبة). ويقول ميمون بن مهران: (انه لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة شريكه). ويحذّر ابن القيم رحمه الله من اهمال محاسبة النفس فيقول: (أضرّ ما على المكلّف الاهمال وترك المحاسبة، والاسترسال، وتسهيل الامور وتمشيتها، فان هذا يؤول به الى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب، ويمشي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في المعاقبة، واذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنس بها وعسر عليه فطامها). ولنستمع الى هذه الكلمات الجميلة لابي حامد الغزالي في (الاحياء) وهو يصف أرباب القلوب المنيبة وذوي البصائر الحية فيقول: (فعرف أرباب البصائر من جملة العباد أن الله تعالى لهم بالمرصاد، وأنهم سيناقشون في الحساب ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات وتحققوا انه لا ينجيهم من هذه الأخطاء الا لزوم المحاسبة وصدق المراقبة ومطالبة النفس في الانفاس والحركات، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات. فمن حاسب نفسه قبل ان يحاسب خفّ في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقبله ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته الى الخزي والمقت سيئاته). وقال الحسن رحمه الله (اقرعوا هذه الأنفس، فانها طلعة وانها تنازع الى شرّ غاية، وانكم ان تقاربوها لم تبق لكم من اعمالكم شيئ، فتصبروا وتشددوا، فإنما هي أيام تعد، وانما انتم ركب وقوف يوشك ان يُدعى أحدكم فلا يجيب ولا يتلفت فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم).