لقد سبق وأن تحدثت عن آليتي المراقبة والمحاسبة في موضوعي " سنوات الجمر مع المراقبة اللصيقة والمحاسبة الدقيقة " باعتبارهما يكونان منظومة متكاملة, للحد من ظاهرة سوء التصرف, و محاربة كل مظاهر الفساد في بلادنا, و محاربة الاعتداء على الأموال العامة, وقد وظفهما بن علي ضد المعارضين له من الإسلاميين وغيرهم توظيفا أساء به لكرامتهم وآدميتهم, و في هذا المقال سأتناولهما في علاقة الفرد بربه, و في علاقة الفرد بنفسه, وفي علاقة الجماعة بنفسها, و في هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن طبيعة الإنسان خيرة قال الله تعالى في سورة العاديات : وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴿100/8﴾ ويقرر نفس المعنى في سورة الشمس قال تعالى : "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿91/7﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿91/8﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿91/9﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴿91/10﴾ ففي هذه الآيات يقرر المولى سبحانه وتعالى أن النفس البشرية خيرة وسوية وأنها تميل إلى الخير أكثر من ميلها إلى الشر وأن الفرد مطالب بالعمل دوما على مجاهدتها وتزكيتها كي يصلح من حالها قال تعالى سورة العنكبوت : " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴿29/69﴾ " وقد عبر عن هذه الطبيعة الخيرة للنفس البشرية في موضع آخر من القران الكريم و أطلق عليها مصطلح "الفطرة" : قال تعالى في سورة الروم " فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿30/30﴾ " فالآية تشير إلي أن هذه الطبيعة الخيرية ( الفطرة ) هي غير قابلة للتغيير والتبديل وبالتالي هي سنة من سنن الله الثابتة التي لا تقبل التحويل قال تعالى في سورة الأحزاب : " سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴿33/62﴾ " وقال أيضا في سورة فاطر : " اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴿35/43﴾ " وقد أكد رسولنا صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى بقوله : "يولد الولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه" و هذه النفس البشرية المجبولة على فعل الخير, تحتاج منا إلى الرعاية, و المجاهدة والتزكية دوما, وذلك بالمسارعة إلى طلب المغفرة, قال تعالى : " وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴿3/133﴾ " وهذا شهر رمضان شهر المغفرة و الرحمة والعتق من النار قد أظلنا فلنسارع إلى طلب الغفران من العزيز الرحمان, ونقبل على فعل الخيرات, وترك المنكرات, والإقبال على ذكر الله, وقراءة القران بتدبر , فالنفس كالطفل كما جاء عن الشيخ البصيري في بردته المشهورة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إن تهمله شب على حب الرضاع وان تفطمه ينفطم, وتحتاج منا أيضا إلى المراقبة والمحاسبة في كل مكان وفي كل حين . فالمراقبة : هي أن يستشعر المرء بأن الله قريب منه, مطلع عليه, يسمع كلامه ويراه, قال تعالى : " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿58/7﴾ " فال تعالى : وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴿20/7﴾ " وهذا مقام الإحسان فال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه. فان لم تكن تراه فانه يراك " وقد عبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك بالتقوى فقال : " اتقي الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة وخالق الناس بخلق حسن" فلنعمل إذن على تعويد أنفسنا على مراقبة الله عز وجل في سرنا وعلننا, حتى تستقيم أحوالنا, و حتى لا يطغى أحد على أحد, ولا يظلم احد أحدا, ولا يعتدي احد على احد, ويشعر كلنا بالأمن الذي افتقدناه هذه الأيام, فالمراقبة الذاتية إذن هي أصل كل الأعمال الصالحة التي يأتيها الإنسان, فكلما تجذرت هذه الآلية الذاتية, في النفس البشرية, إلا و عرفنا التقدم والرقي على جميع الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, وكلما عرفت هذه الآلية نقصا في الترسيخ والتجذير في النفوس, إلا وعرفت بلادنا انحدارا أخلاقيا, يتبعه انحدارا وسقوطا مدويا على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, ففي المجتمع الذي تسوده مراقبة الله عز وجل لا مكان فيه للفساد والغش والرشوة والكذب, ولا مكان فيه لمن يظلم ويطغى, ولا مكان فيه لمن يعذب الناس ويعتدي على كرامتهم وآدميتهم, وقد عرفت بلادنا في العهد البائد هذه الآلية انكماشا وتقلصا ولذلك انتشرت فيها كل الأعمال الإجرامية على كل الأصعدة وفي كل مجالات الحياة ووقع ارتكابها من جميع الفئات ومن جميع المستويات بل حتى من طرف رئيس الجمهورية نفسه "حامي الحمى والدين" وليعلم دعاة فصل الدين عن الدولة وإبعاده من حياتنا اليومية إنما هم بعملهم هذا يناوئون سنن التقدم ويجدفون ضد تيار النهوض لأنهم لم يفهموا أن تغيير عالم الأنفس أو عالم الأفكار هو الذي يحدث تغيير ا على مستوى عالم الأشياء و أن تجذر الهوية العربية الإسلامية لشعبنا ورد الاعتبار لها والعمل على تجذيرها هو المحرك الأساسي لعملية البعث الحضاري الجديد في كيان بلادنا وأمتنا قال تعالى : " لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ﴿13/11﴾ "وقد عرف جيل الصحوة الإسلامية الأولى هذه المعاني وتشربتها نفسه فتحقق على يديه الخير والصلاح والنماء فعرفت الأمة بذلك الازدهار العمراني والتقدم الاجتماعي والاقتصادي والعلمي وعرفت الأمن والرخاء وهنا أستحضر قصة راعي الغنم مع سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أراد أن يختبر إيمانه وأمانته خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة في بعض أصحابه فاستراحوا في الطريق فانحدر عليهم راع من جبل. فقال له عمر : يا راعي الغنم بعنا شاة . فقال الراعي : إنه مملوك – أي أنا عبد مملوك - . قال له عمر : قل لسيدك أكلها الذئب . فقال الراعي : أين الله . فبكى عمر واشترى الغلام من سيده واعتقه . وقد قال الشاعر قديما : إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أنَّ ما تُخفي عليه يغيب المحاسبة : هذه الآلية الثانية التي يحتاجها المسلم في علاقته بالله وبنفسه هي مكملة لآلية المراقبة و مسندة لها قال الماوردي في معناها المحاسبة: (أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل).و معناها أن يقف الفرد في آخر يومه مقوما لكل أفعاله, فان حسناته كانت أكثر من سيئاته, حمد الله على ذلك وشكر, و عززه بالأفعال الحسنة, وان كانت السيئات أكثر من الحسنات, وجب عليه استدراك تلك السيئات بالحسنات, و تجنب مستقبلا إتيان تلك الأفعال المشينة, و هذه المحاسبة تحتاجها كل جماعة بعد مضي زمن محدد من عملها تقف لتقيمه حتى تنظر في جوانبه السلبية, و جوانبه الايجابية, وتدعم ما هو ايجابي, و تستدرك ما هو سلبي, و تتجنبه في المستقبل, و عملية المحاسبة بهذا المعنى تصوب عمل الفرد, و أيضا عمل الجماعة, وتسدد مسيرة الفرد و الجماعة في الاتجاه الصحيح, وهذه العملية التقييمية على مستوى الجماعات تحتاج إلى تخزين لكل المعطيات و المعلومات, وما أسهل هذا العمل في عصر تطور تكنولوجيا المعلومات, فحري بكل الأحزاب أن تقيم كل أعمالها ومواقفها في كل وقت وجين, وتراجعها حتى تصحح دوما المسار, ولم لا يتخذ كل حزب له مكتبا منتخبا و محايدا يتابع أعمال الحزب وكل مواقفه السياسية والفكرية, ويقيمها, فيقف على كل الأخطاء, فتقع مراجعتها دوما, ونتداركها ونصحح المسار, وقد دعانا المولى سبحانه في مواضع عديدو من القران الكريم إلى محاسبة النفس فقال في سورة الحشر (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)) (الحشر:18). ففي هذه الآية أمر الله سبحانه وتعالى العبدَ أن ينظر ما قدم ليوم القيامة ، وهل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به أو لا يصلح ، ولا شك أن المقصود والهدف من هذا النظر : أن يقوده ذلك إلى كمال الاستعداد ليوم المعاد ، وتقديم ما ينجيه من عذاب الله ، ويبيض وجهه عند الله ؛ وهذه في حقيقتها هي محاسبة النفس . وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عماله: )حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة ، عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة ) هذا وقد ذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله- أن محاسبة النفس تكون: أولاً: البدء بالفرائض ، فإذا رأى فيها نقصاً تداركه. ثانياً : المناهي، فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية. ثالثاً : محاسبة النفس على الغفلة ، ويتدارك ذلك بالذكر والإقبال على الله. رابعاً: محاسبة النفس على حركات الجوارح ، وكلام اللسان ، ومشي الرجلين ، وبطش اليدين ، ونظر العينين ، وسماع الأذنين ، ماذا أردت بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى أي وجه فعلته. فإذا أردنا إصلاح مجتمعنا فما علينا إلا أن نتخذ منظومة "مراقبة ومحاسبة" نستعين بها في كل أحوالنا على المستوى الفردي والجماعي لتقييم أعمالنا ومراجعة أنفسنا حتى تستقيم أحوالنا فنسدد مسيرتنا في الإصلاح والتنمية على جميع المستويات